جمال واكيم
القوات الروسية قد لا تتوقف عند الدنيبر. هذا كان خلاصة حوار جرى بيني وبين خبير في الشّأن الرّوسي بعدما نجحت القوات الرّوسية بالسيطرة على مدينة سوليدار في شرق أوكرانيا، وبعدما اكتمل عقد تطويق القوات الرّوسية لمدينة باخموت التي بدأوا بخراق دفاعاتها من أماكن عدة.
الصراع على باخموت
ويعتبر النجاح الرّوسي في سوليدار الغنية بمناجم الملح تحوّلاً مهمّا لصالح موسكو في الصراع الدائر بينها وبين الغرب في أوكرانيا منذ عام تقريباً. فمن شأن هذا أن يتيح للجيش الرّوسي أن يتقدم إلى مدينة باخموت ويركز جهوده للسيطرة عليها، ما سيتيح للقوات الرّوسية السيطرة على عقدة المواصلات الرئيسية في شرق أوكرانيا، إذ أن الطرق السريعة وشبكات السكّة الحديد تتقاطع فيها. وهذا سيتيح للقوات الرّوسية أن تحرم القوات الأوكرانية من القدرة على الانتقال من منطقة إلى أخرى في شرق أوكرانيا وفقاً لما تتطلبه المناورات العسكرية خصوصاً أنّه يقطع طرق الإمداد بين مدينتي أرتيموفسك وسيفرسك ما سيشدد الخناق على القوات الأوكرانية في مناطق أخرى، كما أنه سيساعد القوات الروسية في السيطرة على كامل منطقة الدونباس والانطلاق منها للسيطرة على مناطق أخرى في شرق أوكرانيا.
ويعتبر هذا أول إنجاز عسكري روسي كبير يتمثل بالسيطرة على مدينة رئيسية في شرق أوكرانيا منذ تموز الماضي، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز عشرة آلاف نسمة، علماً أن معظم الأعمال القتالية في سوليدار وباخموت تتولاها مجموعة فاغنر شبه العسكرية والتي أسسها العسكري السابق ورجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين.
من جهتها اعترفت كييف بأن "الوضع معقد في شمال باخموت" بعدما نجح الجيش الروسي بالسيطرة على باراسكوفيفكا في شمال المدينة ما جعله يتقدم لإحكام الطوق على المدينة التي تعتبر حصناً منيعاً في منطقة الدونباس. وتقع البلدة على بعد عشرة كيلومترات شمال باخموت وتعتبر استراتيجية لجهة الانطلاق منها للتغلغل في المدينة من جهتها الشمالية. وترافق ذلك مع إعلان الجيش الرّوسي الاستيلاء على بلدة كراسنا غورا قرب باراسكوفيفكا. وذكر أن "وحدات هجومية من المتطوعين بمساندة سلاح المدفعية من المجموعة الجنوبية حررت البلدة."
والجدير ذكره أن مدينة باخموت كان تعداد سكانها 70 ألف نسمة قبل الحرب، وهي تعدّ إحدى المناطق الصناعية في إقليم دونباس، وإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية فلقد تحولت إلى رمز للصراع بين كييف وموسكو، ما سيشكّل نصراً كبيراً بالنسبة للروس عند اكتمال سيطرتهم عليها.
إرباك أوكراني – غربي
النجاحات الرّوسية هذه أربكت الجانب الأوكراني. ودفعت بالرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى احداث تغييرات في رأس هرم السلطة عبر تعيين رئيس جديد لأجهزة الأمن الأوكرانية هو فاسيل ماليوك ووزير جديد للداخلية هو إيغور كليمنكو وذلك لتشكيل ألوية عسكرية هجومية جديدة تكون مهمتها استعادة ما خسرته القوات الأوكرانية.
وقد جاء هذ بالتوازي مع وضع وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف أجندة الاجتماع المقبل مع وزراء دفاع الدول الغربية الداعمة لكييف في حربها ضد روسيا. وضمّت الأجندة طلب كييف تزويدها بأنظمة دفاع جوي مضادة للصواريخ ودبابات وذخائر حديثة بالإضافة إلى تدريب جنود يحلّون مكان العدد الكبير من الخسائر البشرية العسكرية الذي تعرضت له كييف في الآونة الاخيرة.
لكن هذه الطلبات الجديدة لم تلقَ استحساناً في الغرب وهو ما أعرب عنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي قال في مؤتمر صحافي عقده عشية اجتماع لوزراء دفاع دول الناتو إن القوات الأوكرانية تستهلك كميات كبيرة من الذخائر تفوق ما تنتجه لدول الأعضاء في الحلف، ما يؤشّر إلى أن الدول الغربية قد لا تلبّي جميع طلبات كييف من السلاح.
كل هذا يؤشّر إلى أن وضع كييف العسكري والسياسي ليس في أحسن حال وأنّها تتجه لخسارة كبرى ستفقدها مدينة باخموت الاستراتيجية وتفتح في المجال أمام القوات الروسية للسيطرة بالكامل على جمهوريتي لوغانسك ودونييتسك، اللذين سبق وضمتهما رسمياً بالإضافة إلى مقاطعة زاباروجيا وخيرسون، وللانطلاق نحو مناطق أخرى في شرق أوكرانيا الناطقة بالروسية مثل خاركيف وبالتافا، وحتى الجزء من كييف الواقع إلى الشرق من نهر الدنيبر.
وبعدما سبق وفشلت استراتيجية موسكو بتوجيه ضربة ساحقة لكييف في بداية العملية العسكرية الخاصة التي تقوم بها في هذ البلد لتحييده في الصراع الجيوسياسي مع الغرب عبر إحداث تغيير في رأس هرم السلطة، فإن روسيا التي يمتلك قادتها دوافع قومية روسية، اعتمدت خططاً بديلة تقوم على تحييد أوكرانيا عبر تقسيمها، واستعادة المناطق الناطقة بالروسية التي سبق ومنحت إلى أوكرانيا في زمن الاتحاد السوفياتي إلى حضن الوطن الأم.
والجدير ذكره أن أوكرانيا تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى من مناطق واقعة إلى الغرب من نهر الدنيبر كانت سابقاً خاضعة لحكم امبراطورية النمسا المجر، ومناطق واقعة إلى الشرق من نهر الدنيبر الناطقة باللغة الروسية ضمها الشيوعيون إلى أوكرانيا إبان نشأة الاتحاد السوفياتي.
وتتجه روسيا إلى إعادة ضم المناطق الناطقة بالروسية في منطقة شرق الدنيبر والتي لا تقتصر على جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين ومنطقة زاباروجيا وخيرسون التي سبق وضمتها موسكو في استفتاء أجرته قبل أشهر عدة، ولم تعترف بنتائجه كييف أوالدول الغربية. بل إن موسكو تتجه لضم مناطق مثل خاركيف وبالتافا وشرق كييف لتجعل من نهر الدنيبر الحد الفاصل بينها وبين الغرب بأجمعه وليس فقط أوكرانيا. إضافة إلى ضم منطقة أوديسا الناطقة أيضا بالروسية لمنع كييف من الوصول إلى البحر الأسود، وتحويل الجزء الاوكراني الواقع إلى الغرب من الدنيبر إلى أرض محروقة ومحايدة بينها وبين العالم الغربي.
ويشكل هذا جزءًا من قبول موسكو بواقع أن الغرب لن يقبل روسيا أبداً كجزء منه، وأن جداراً حديدياً جديداً أقيم بينها وبين الغرب، لتحول أنظارها لبناء شراكات مع القوى الآسيوية وعلى رأسها الصين وإيران والهند. وقد تجلّى هذا بوقف معظم إمدادات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا، وتحويلها باتجاه الصين والهند، وببدء الصين وروسيا وإيران ببناء فضائها المالي والثقافي والإعلامي الخاص المنفصل كلّياً عن الغرب.
لذا فإن الحرب في أوكرانيا لا تشكل مجرّد صراع بين روسيا وأوكرنيا أو بين روسيا والغرب، بل هي تتجاوز هذا البعد لتشكل محطة رئيسية في عملية تشكيل النظام العالمي الجديد القائم على تعددية قطبية، تقوم على تنافس بين الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأوستراليا من جهة والقوى الأوراسية وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران من جهة أخرى. وبين المحورين تقف قوى إقليمية ثانوية تستفيد من الهامش بين الكتلتين العظميين لتنتزع حصّة من دور لها في هذا النظام الذي سيكون متعدد الأقطاب.