أمين قمورية
حتى الآن لم تنكسر بعد الجرّة بين مصر والسعودية. خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن طيب العلاقة بين الطرفين، أعاد ترطيب الأمور التي عكّرتها الحرب الإعلامية الدائرة بين كتّاب الرّأي على صفحات الجرائد في البلدين.
ثمة ثوابت تجمع بين القطبين العربيين حالت دائماً دون تطور النزاع إلى ما هو أخطر. لكن الأكيد أن قواعد العلاقة بين القاهرة والرياض لن تعود هي هي. حاجات مصر أكبر من أن تلبّيها أيّ دولة أخرى. وفي المقابل، السعودية اليوم هي غير السعودية بالأمس. لقد تغيّرت كثيراً وتغيّرت بتغيّرها الرؤى ولغة المصالح.
[caption id="attachment_4375" align="alignnone" width="1664"] ويبقى أبو الهول شاهداً على كل ما يجري.[/caption]مصر تغرق في خضمّ أخطر أزمة مالية. اقتصادها يتدهور ويكاد ينهار. ديونها الخارجية تجاوزت بكثير الحد المقبول. خدمة الدين تبتلع عوائد الدخل القليلة للخزانة، واستحقاقات دفع الأقساط داهمة جداً، فيما القدرة على التسديد معدومة. والجنيه المصري يفقد من قيمته على مدار الساعة. السياحة التي تشكل مورداً أساسياً للعملة الصعبة، تعاني ما تعاني.
الارتدادات الثقيلة للحرب في أوكرانيا عبرت الحدود المصرية. أزمة مياه النيل يشتد خناقها على رقاب البلاد والعباد. الأمن القومي مهدّد من كل صوب، شمالاً من غزة المحاصرة بأخطر الحكومات الصهيونية الإسرائيلية تطرفاً، إضافة إلى سوريا التي عمّق زلزال الطبيعة أخدود زلزالها السياسي العميق وبات يشكّل خطراً واقعيا على كيان الدولة ومستقبلها، غرباً من ليبيا المنقسمة على نفسها، جنوباً من السودان المفكك، ومن منابع النيل الأزرق في الهضبة الأثيوبية، وشرقاً من البحر الأحمر الذي كان بحيرة عربية صرفة وصار ساحة تنافس وصراع بين القوى الكبرى.
مشكلات قديمة تراكمت فوق مشكلات جديدة، وأضيف إليها سوء الإدارة المحلية وتخبّط السياسات الاقتصادية والمالية وعبء الاثقال الإقليمية والدولية، حتى صارت جبلاً تعجز عن حمله أقوى الاقتصادات العالمية، فكيف بدولة متوسطة الحجم وتعاني من أزمة ديموغرافية وسكانية وإسكانية وأفواه جائعة؟ وبدلا من البحث عن وسائل للعلاج ووضع اليد على أسباب العلّة واختيار الدواء المناسب، كان العتب الكبير على "الأشقّاء الأثرياء" الذين اتهمهم أعمدة الصحف الموالية للنظام بالتقصير في واجبهم الأخوي في اللحظات الحرجة، وشحنت "الآراء" بعبارات الردح والتشهير، وبالأسلوب ذاته كان الرد معاكس.
انفجرت الأزمة عندما امتنعت مصر أولاً عن رد ودائع خليجية في تاريخ استحقاقها، وطلبها مساعدات جديدة وتجاهل دول الخليج نداء صندوق النقد الدولي الذي طالبها بتقديم المساعدة لمصر، وثانياً عن تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة في الوقت المحدد، وربما فعلت ذلك للضغط لتسريع أموال المساعدات. وكان الردّ الإعلامي الخليجي هجوماً منسقاً على الجيش المصري وهيمنته على الاقتصاد والسياسة، واعتباره أصل العلّة التي تواجهها مصر حالياً، ولأن السيسي، هو ابن المؤسسة العسكرية وقائدها، فقد يكون الهجوم ضغطا لتعديل سلوكه السياسي ونهجه الاقتصادي، وقد يكون تعبيراً عن رغبة سعودية وخليجية لتغيير شكل العلاقة مع مصر كلّيّاً.
وزاد الطين بلّة مشاريع الاستثمار السعودية في إطار رؤية "المملكة 2030"، والتي قيل على لسان وزير ماليتها محمد الجدعان أن مجمل حجمها من الآن وحتى نهاية العقد، قد يصل إلى حدود 3.3 ترليون دولار (رقماً قد يكون مبالغاً فيه)، وإن للاستثمارات السعودية في تركيا حصة الأسد منها. وهنا كانت الطامة الكبرى: لماذا تعطى الهدية الكبرى لتركيا التي فعلت ما فعلت مع السعودية في قضية الصحافي المغدور جمال خاشقجي، وليس لمصر التي كانت الشقيقة الكبرى للرياض والسند الدائم لها.
المساعدات المالية من الدول الخليجية لمصر والدول العربية الأخرى، كانت تحصيل حاصل في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي، في إطار ما كان يعرف بدول الطوق (مصر وسوريا والأردن ولبنان) التي تحمل عبء المواجهة في مقابل أن تتلقى الدعم من دول الإسناد ولاسيما الخليجية منها، ثم في حرب الخليج الأولى عندما شاركت دول الطوق مع التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت، ثم كانت المقايضة قبل سقوط نظام حسني مبارك وبعد وصول السيسي إلى السلطة، بين أنظمة الخليج ونظام العسكر في مصر، والقاضية بقمع الجيش المصري لـ"الإخوان"، والحركات الإسلامية، كي لا ينتقل خطرهم إلى الخليج، مقابل تمويل خليجي للنظام المصري.
لكن، المشهد الإقليمي تغيّر في العقد الأخير: الصراع العربي الإسرائيلي اتخذ منحى آخر، بعد موجة التطبيع شبه الشاملة بين دول الخليج وإسرائيل، وتحول الصراع من عربي إسرائيلي إلى عربي فارسي بعد التمدد الإيراني الواسع في أربع دول عربية. مصر أحجمت عن المشاركة الفعلية في حرب اليمن واكتفت بالدعم اللفظي والفني. كذلك لم تقطع القاهرة شعرة معاوية مع نظام الرئيس بشار الأسد على غرار ما فعلت الرياض. أما وقد تلقى "الإخوان" ضربة موجعة على الرأس في كل مكان، فبات بإمكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الاعتقاد أنه قادر على تدبّر أمر الجماعة بمفرده محلياً وخليجياً، وبالفعل فإنه قاد حملة قمع ضد دعاتها وأنصارها، وعلى السلفيين أيضا، أدّت إلى الزجّ بالمئات منهم في السجون. وهكذا صارت المساعدات المالية للمصريين، عبئاً على دول الخليج، أكبر من التهديد "الإخواني" نفسه.
وتعاني مصر من مشكلتي الإسكان والبطالة، كما يسبب فائض العمالة المصرية إشكالا كبيراً على حساب نهج "السعودة" وتوطين الوظائف، بالنسبة لدول الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، في حين أن أسعار النفط الحالية المرتفعة، تكفي لحماية موازنات هذه الدول من العجز على المدى القريب، وبالكاد تكفي لحل مشكلاتها الداخلية لا لحل مشكلات الآخرين ولاسيما العميقة منها كمشكلة الاقتصاد المصري.
أمّا في ما يتعلق بالخطر على الأمن القومي، فإن الهجمات على "أرامكو" وفي داخل العمق السعودي، أثبتت أن الأمن يجب أن يكون في الأساس أمناً ذاتياً ومعتمداً على القدرة الدفاعية الذاتية وليس على الاتفاقات والضمانات الخارجية عربية كانت أم أميركية، لذا كان هذا الإقبال الخليجي الكبير على التسلح النوعي وتنويع مصادره وإجراء تعديلات جوهرية في السياسة الخارجية للمملكة.
مع هذه التغيرات السياسية والجيوسياسية العميقة، تراجع مبرر المساعدات الضخمة التي يقدمها الخليج لـ "الأشقاء العرب"، ولم تقتصر عملية "مسك اليد" على مصر وحدها، بل شملت أيضا معظم الدول العربية الأخرى ومنها حليفاً أساسياً لها، هو أيضاً نظاماً ملكياً، أي الأردن الذي نشر موازنته الأخيرة متضمنة صفر مساعدات خارجية للمرّة الأولى في تاريخه. وكان لافتاً غياب السعودية والكويت عن قمة دعت إليها أبوظبي من أجل تقديم العون للأردن ومصر. الأمر الذي كان من أبرز مؤشرات النّار تحت الرماد، ليس فقط بين الرياض والقاهرة، بل أيضا بين الرياض وأبوظبي.
السياسة تغيّرت كذلك منطق المساعدة، فقد كشف وزير المالية السعودي، في «منتدى دافوس»، أن المملكة غيّرت شكل المساعدات لحلفائها من تقديم مِنح مباشرة وودائع من دون شروط، إلى ربْطها برؤية "إصلاحات".
ويبدو أن دول الخليج وكأنها تشدد الشروط من خلال السعي إلى الاستحواذ على أصول بعينها، إضافة إلى ودائع البنك المركزي، وهي مطالب لها تكلفتها في مصر. لكن الزمن تغيّر ولغة المصالح تفوّقت على ما عداها حتى بين "الأشقاء"، فهل تظل هذه التوترات تحت السيطرة وقابلة للاحتواء؟ أم أنّها قد تفلت من عقالها وترتسم معها خريطة تحالفات جديدة في منطقة يعاد تشكيلها على نار حامية؟