جمال واكيم

في خطوة طال ترقبها، وصل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أوائل الأسبوع الفائت إلى بغداد على رأس وفد رفيع المستوى في زيارة رسمية. وأعلن وزير الخارجية العراقي أن الزيارة تأتي في سياق "تأكيد العراق انفتاحه على جميع أصدقائه وشركائه" مشددا على العلاقات الاستراتيجية بين العراق وروسيا خصوصا في مجال الطاقة وتعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين.

أبعاد الزيارة الجيوسياسية

خلال الزيارة بحث الجانبان الروسي والعراقي جملة من الملفات السياسية والاقتصادية، خصوصاً أن الوفد الروسي ضم ممثلي شركات نفطية وغازية، إضافة إلى شركات مقاولات متخصصة بتأهيل البنى التحتية. وقد أتت الزيارة تتويجاً لمحادثات هاتفية سبق وأجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني في شهر تشرين ثاني الماضي وشددا فيها على ضرورة تعزيز العلاقات الثنائية.

وتأتي الزيارة في الوقت الذي يستعر فيه التوتر بين روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى على خلفية محاولات واشنطن لتطويق القوى الأوراسية المتمثلة بروسيا والصين وإيران. ودعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في مواجهة روسيا، إضافة إلى دعمها للجماعات السورية المسلحة ضد الدولة السورية المدعومة من موسكو.

وفي حالة الاستقطاب الدولية هذه فإن زيارة لافروف إلى بغداد تهدف إلى إعادة نسج علاقات قوية بين روسيا والعراق، والتي ضعفت كثيراً بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 واحتلالها له حتى يومنا هذا. ويبدو أن موسكو لا تريد ترك العراق فريسة للسيطرة الأميركية، وهي تريد الدخول إلى هذا الميدان بما يساهم في تخفيف القبضة الأميركية المفروضة على هذا البلد، ويجعل واشنطن مضطرة للالتفات إلى جبهة جديدة تجعلها تخفّف من وطأة حضورها في شمال شرق سورية من جهة، وتخفف من دعمها لكييف من جهة أخرى بما يساهم بدوره بتخفيف الضغط عن موسكو في كل من سوريا وأوكرانيا.

وتكتسب الزيارة رمزية خاصّة إذ أنّها تأتي في الذكرى العشرين لجلسة مجلس الأمن التي شهدت المطالعة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن بأول والتي أعلن فيها أنه تلقى معلومات تؤكد امتلاك الرئيس العراقي الراحل صدام حسين تكنولوجيا لانتاج أسلحة بيولوجية وهو ما ثبت زيفه لاحقاً. إلّا أن الولايات المتحدة استندت إلى ما جرى في هذه الجلسة لتبدأ في العشرين من آذار 2003 غزوها للعراق والذي انتهى باحتلال بغداد في التاسع من نيسان 2003 وسط معارضة قوية من روسيا والصين وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى عدد كبير من الدول.

وإن كانت ألمانيا وفرنسا عادتا وانصاعتا للإملاءات الأميركية بعد ذلك، إلّا أنّ روسيا بقيت على معارضتها للاحتلال الأميركي للعراق، ما كلّفها فرصة إقامة علاقات قوية معه في ظل الحكومات التي قامت بعد الغزو الأميركي.

علاقات قوية فترت بعد الإطاحة بصدام

وتعود العلاقات الروسية العراقية إلى زمن الاتحاد السوفياتي، وقد بدأت خلال الحرب العالمية الثانية حين كان العراق واقعاً تحت النفوذ البريطاني، وكانت بريطانيا العظمى حليفة للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في مواجهة ألمانيا النازية. وقد انقطعت العلاقات بين البلدين في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، نتيجة سعي النظام الملكي في العراق الدخول في حلف موجه ضد الاتحاد السوفياتي، عُرِف بحلف بغداد وضم كلّاً من بريطانيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران وباكستان إضافة إلى العراق. ولكن بعد الإطاحة بالملك فيصل الثاني ونظامه في 14 تموز 1958 أعاد العراق علاقاته بالاتحاد السوفياتي في ظل حكم الرئيس عبد الكريم قاسم الذي كان مدعوماً من الشيوعيين العراقيين.

وبعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم في العام 1963 ساءت العلاقات بين موسكو وبغداد لفترة وجيزة، إلّا أنّها عادت وقويت في العام 1964 حيث عاد الاتحاد السوفياتي إلى تصدير الأسلحة للعراق الذي بدأ يعتمد أكثر فأكثر على السلاح السوفياتي في مقابل تصديره لنفطه إلى كتلة الدول الاشتراكية. واستمرّت العلاقات قوية بين الاتحاد السوفياتي والعراق في المرحلة الأولى من حكم حزب البعث بعد الانقلاب الذي أوصلها إلى السلطة في العام 1968. وقد وقّع العراق في العام 1972 اتفاقية صداقة وتعاون لمدة 15 عاماً مع الاتحاد السوفياتي ليصبح أقرب حلفائه في الشرق الأوسط.

لكن صعود الجناح اليميني في حزب البعث بزعامة صدام حسين بعد العام 1975 ساهم في تراجع العلاقة نسبياً، في ظل سعي الرجل القوي في العراق للتقارب مع الغرب وتنويع مصادر تسليحه، ليحصل العراق على تسليح غربي بالدرجة الأولى من فرنسا. وعلى الرغم من ذلك بقي الاتحاد السوفياتي هو المصدر الأول للسلاح في العراق خلال الثمانينات، وفي ظل خوض العراق لحرب ضد إيران دامت لثماني سنوات، كان الاتحاد السوفياتي يورد 32 بالمئة من حاجات العراق العسكرية.

العلاقات الثنائية بعد انتهاء الحرب الباردة

وفي أواخر الثمانينات انهارت كتلة الدول الاشتراكية بعد تحطيم جدار برلين في العام 1989، وبات جلياً أنّ الاتحاد السوفياتي قد هُزم في الحرب الباردة، ما جعل صدام حسين يستشعر خطر انفراد الولايات المتحدة بالزعامة العالمية ما قلّص من هامش المناورة أمام القوى الإقليمية والثانوية مثل العراق. وعندما اجتاح العراق الكويت في 2 اب 1990 كان الاتحاد السوفياتي عاجزاً عن الوقوف في وجه المساعي الأميركية الهادفة إلى حشد تحالف دولي ضد العراق. بل إن الاتحاد السوفياتي انتقد صدام حسين على اجتياحه للكويت ووافق على القرارات الدولية التي كانت تدعوه للانسحاب إلى الحدود الدولية. لكن موسكو وقتذاك رفضت إرسال قوات لقتال العراق.

وخلال الحصار الذي فرض على العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها والأمم المتحدة بعد الانسحاب العراقي من الكويت في شباط 1991، فإن روسيا الاتحادية، خليفة الاتحاد السوفياتي، كانت من القوى التي حاولت تخفيف معاناة العراقيين عبر قيامها بتزويد العراق بالغذاء والدواء في إطار اتفاقية النفط مقابل الغذاء التي عقدت بين بغداد والأمم المتحدة. وقبل وخلال الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 اتهمت واشنطن موسكو بان الاستخبارات الروسية كانت تقدم معلومات استخباراتية للقوات العراقية حول تحركات القوات الأميركية. وقد عارضت روسيا الغزو الأميركي للعراق وحاولت جاهدة إنقاذ الرئيس العراقي صدام حسين وأسرته، وهو ما تذرعت به القوات الأميركية لقصف الموكب الدبلوماسي الروسي الذي كان يحاول مغادرة بغداد.

وقد فترت علاقات العراق بروسيا في ظل الحكومات التي قامت في هذا البلد في ظل الاحتلال الأميركي، خصوصا وأن هذه الحكومات كانت تتهم موسكو بانحيازها لنظام البعث في العراق. لكن في العام 2018 تجددت العلاقات بين موسكو وبغداد، بعد شراء العراق لدبابات تي 90 من روسيا. وقد حاول العراق أيضا شراء منظومة اس 400 للدفاع الجوي من روسيا إلا أن تدخل الولايات المتحدة أحبط العملية. والآن تسعى موسكو لطرق أبواب العراق مجدداً لتعزيز العلاقات مع هذا البلد وعدم تركه رهناً للنفوذ الأميركي.