أمين قمورية

خرج اجتماع باريس من أجل لبنان، بلا نتيجة. الأمر متوقع. الدول المعنية بهذا الاجتماع منشغلة بقضايا أكبر وأخطر ليس أقلّها تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاستقرار العالمي والتنافس الصيني الأميركي الذي يزداد احتداماً. وكذلك شكّل غياب إيران عن الاجتماع علامة أخرى من علامات الفشل، ذلك أنّها تضطلع بدور أساسي في الاستحقاقات اللبنانية ولاسيما الرئاسي منها، عبر "حزب الله"، الذي عبّر على لسان قادته عن عدم الرضى بالقول: "أن لبنان لا يقبل بإملاءات خارجية، لا رئاسية ولا غيرها... من دول إقليمية أو دولية".

إذاً، لا توافق، لا دولي ولا إقليمي بعد على وقف دورة التدهور في لبنان، ولا حوار لبناني لبناني، ولا اتفاق أو إخراج دستوري من شأنه تجاوز عتبة انتخاب رئيس للبلاد تمهد لحكومة جديدة وإطلاق مسار إنقاذي وإصلاحي يخفّف من وطأة الأزمة المتعددة الأوجه التي نعيشها.

وفي غياب التوافق يستمر الانهيار، في مسار انحداري لا قعر له ولا نهاية، آخذاً بالبلد إلى نموذج من الدول الفاشلة لا مثيل له لا في العالم المعاصر. نموذج لبناني يجمع بين النموذج الصومالي من حيث انهيار الدولة والنظام العام وتفكك المؤسسات والتقسيم، والنموذج الفنزويلي والزيمبابوياني من حيث انهيار أسعار العملة الوطنية والتدهور المعيشي، والنموذجين العراقي والنيجيري من حيث تفلت الفساد والفاسدين. وفي هذه الحال فإن القيامة صعبة والخلاص مستحيل. الصومال انهارت في مطلع تسعينات القرن الماضي، وحتى الآن لم تقم لها قائمة رغم عشرات المؤتمرات الدولية والإقليمية والعربية التي كرّست لأجل إيجاد حل لها. علماً أنها تملك الموقع المميز عند ناصية باب المندب، وهي المدخل لشرق افريقيا والقرن الأفريقي، وتملك من المناجم والمراعي والموارد والغذاء ما يكفي لحلّ مشكلة الجوع والفقر في القارة السمراء بأكملها. ربما كان ذلك هو لَعْنَتها مثلما صار موقع لبنان وما يملكه من تنوع وثراء ثقافي ودور متميز لَعْنته هو الآخر.

في زمن الخيبة والتراجع وفقدان الأمل وعدم الثقة بالنظام والقضاء والحكومات، يستفحل اليأس والكراهية، ويزدهر خطاب التطرف والتعصب، ويختلط الحابل بالنابل. وبدلاً من البحث عن حلول تبحث في أصل العلّة، وتنظر إلى ظواهر المرض كنتائج لأصل العلّة، يصير تضخيم للنتائج والنظر إليها كأصل. وتنتعش لغة العنصرية ومقت الآخر، الشريك في الوطن، وتحميله مسؤولية الخراب وما حلّ بالبلاد. فثمة واحد يلقي المسؤولية بالكامل في ما حصل على السلاح خارج الشرعية ويتناسى المسببات الأخرى، ومنها الخطر الإسرائيلي ومنظومة الفساد، والنظام الطائفي ولّادة المشاكل في الكيان منذ قيامه، والديموقراطية التوافقية التي تجعل الوطن قطعة جبن إذا توافقوا اقتسموها، وإذا اختلفوا أحرقوه. وثمة ثان يلقي المسؤولية على الحصار الأميركي ويتناسى حصار أهل الداخل بعضهم للبعض، وطبيعة النظام السياسي الذي يجعل من الوطن بيتاً بغرف كثيرة، مشرّعة نوافذه للرياح الخارجية تعبث بالداخل وتتلاعب فيه تبعاً لحساباتها والمصالح. وثمة ثالث يلقي بالمسؤولية على "الغريب"، النازح السوري أو اللاجئ الفلسطيني، متّهما إياه بسرقة اللقمة منه ويهوّل بالتوطين وبالتجنيس والتغيير الديموغرافي، متناسياً أننا نعلّم أولادنا، ونصقلهم ثم نرسلهم بالمجان هدايا ثمينة إلى الخارج. وأن ذلك هو السبب الرئيسي في اختلال الفجوة القائمة في الجدول الديموغرافي، وأن الفوضى في النظام العام هي المسبب الرئيسي لفوضى اليد العاملة. كما أن الانصياع للخارج وعدم اعتماد سياسة خارجية متوازنة هو أحد مسببات عدم عودة السوري إلى المناطق الآمنة في دياره.

في مثل هذا المناخ وتعقيدات العيش المشترك وعدم التوافق على تقاسم البلد مجدداً حصصاً، أو طمعاً بحصصٍ أكبر، لا غرابة في أن تتعالى أصوات سياسيين أو عاملين بالشأن العام مطالبة بالفيديرالية أو التقسيم.  في بلد صغير ليس فيه كانتونات إثنية صافية، ولا كانتونات طائفية خالصة، ولا هو بلد بيئات متقاتلة، ولا مناطق متباعدة جغرافياً وبيئياً... لبنان بالكاد أن يكون إقليماً في دولة فيديرالية. صحيح أن هناك مناطق تتكون من أكثريات طائفية معينة، لكنها متلاصقة ومتداخلة بعضها ببعض، تداخلاً لا يمكن معه فصلها.

والفيدرالية في الأساس هي لجمع الكيانات الطائفية أو الثقافية التي كانت متناحرة بين بعضها البعض في بوتقة وطنية واحدة، مثال النموذج السويسري. أمّا عندما تطرح في لبنان الواحد الموحد، فإن هدفها الأساسي هو التفريق والتمايز بين المناطق والطوائف وتالياً القضاء على المشتركات بين اللبنانيين الذين بينهم ما يجمع أكثر ممّا يفرّق. وقد تكون ولادة حرب لبيئاتها لا السلام.

وفي ضوء أفق الفيدرالية المسدود، يبقى الأمل في أن يكون الحل بإقامة دولة مدنية، أي دولة المواطنة التي تعمل على إزالة الخلافات أو التناقضات التي سببت آلاماً للبنانيين. ويشعر كل فرد من خلالها أنه متساوٍ مع الاخر، ويتمتع بالحقوق والواجبات نفسها، وفق منطوق الدستور، ولا يشكّل الواحد تهديداً للآخر بهدف إشاعة الوحدة الوطنية، على خلاف مشاريع التقسيم الهادفة إلى تعطيل أيّ أمل بتجاوز فكرة العداء للقانون والإصلاح، في دولة تعتبر الفساد منهجاً طائفياً لا يجوز الاقتراب منه.

لكن هذه الدولة المدنية العادلة والعصرية التي لطالما نادى بها رهط كبير من اللبنانيين منذ نشوء دولة لبنان الكبير وحتى اليوم، ظلّت حلماً لا طائل منه، لأسباب ذاتية وموضوعية، أهمها عدم قدرة المنادين بها على إحداث ميزان قوى داخلي يستطيع فرضها عبر صناديق الاقتراع، أو عبر بناء تيار سياسي عارم يتكوّن من أحزاب أو تحالفات سياسية، قادر على حمل مشروعها.

هكذا دولة، وهكذا مشروع إنقاذي، لن يهبط من السماء، ولن يحمله لنا الخارج أياً كانت طروحاته وادعاءاته، لأن محرّكه هو مصالحه وليس مصلحتنا. ولن تقدم عليه منظومتنا الحاكمة لأنّه معاكس لخط سيرها وأصول نشأتها ومكمن قوتها. هكذا مشروع يتطلب التفاف كل اللبنانيين حوله، يتطلب صرخة واحدة وموحدة من الجميع، ولعلها تكون المحاولة الأخيرة قبل تدفق نهر الخراب العظيم.