جمال واكيم
الغرب لا يريد أردوغان ... هذا ما تفيده جميع التحركات التي تقوم بها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحليفاتها الأوروبيات والتي كان آخرها إعلان كل من إيطاليا، وإسبانيا، والسويد، وهولندا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والدانمرك والولايات المتحدة إغلاق عدد من قنصلياتها في تركيا بذريعة وجود تهديدات أمنية من قبل جماعات إرهابية.
الضغوط الغربية على الاقتصاد التركي
وتكمن خطورة هذه الخطوة بأنها تساهم بمزيد من زعزعة الثقة بتركيا في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من أزمة عميقة تمثلت بتراجع الليرة التركية أمام الدولار لتصل إلى 18.82 ليرة تركية لكل دولار أميركي. وهذا دفع نسب التضخم عالياً في البلاد لتصل إلى 64.30 بالمئة في أوائل العام الحالي بالمقارنة مع 36.10 بالمئة خلال العام الفائت. ومن شأن التحذيرات الأميركية الأوروبية من مخاطر هجمات إرهابية في تركيا أن تؤثر على قطاع السياحة، علماً أن السياحة في تركيا تدر 46 مليار دولار أميركي سنوياً على الاقتصاد التركي.
هذا سيفاقم من الوضع المأزوم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يواجه حملة شرسة تشنّها عليه قوى المعارضة التي ائتلفت في تحالف يضم كلاً من حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليتشدار أوغلو والحزب الجيّد القومي بزعامة ميرال أكشنار وحزب السعادة الإسلامي بزعامة تمل كرم الله أوغلو وحزب الديمقراطية والتقدم بزعامة علي باباجان وحزب المستقبل بزعامة أحمد داود أوغلو والحزب الديمقراطي بزعامة غولتكين أويصال. وسبق أن تمكن هذا التحالف من تحقيق نصر كبير في الانتخابات البلدية في العام 2019 على حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وحزب الحركة القومية بزعامة دولت بهتشلي، وانتزع من أردوغان بلديات أنقرة وإزمير وإسطنبول.
ويراهن هؤلاء على هذه النتيجة لتحقيق فوز على أردوغان في الانتخابات الرئاسية يطيحه عن السلطة التي تربّع على عرشها في العام 2002 كرئيس للوزراء بين عامي 2002 و2014، ثم كرئيس للجمهورية بعد العام 2014. ويحظى التحالف المعارض لأردوغان بدعم غربي، علماً أن وفداً من قيادات المعارضة بقيادة كليتشدار أوغلو سبق وزار واشنطن طلباً لدعمها ومباركتها جهود المعارضة للإطاحة بأردوغان.
تاريخ علاقة الغرب بأردوغان
لكن لماذا يسعى الغرب للإطاحة بأردوغان؟ بالعودة إلى العام 2001، فإن الولايات المتحدة كانت تخطط لشرق أوسط جديد، يشكل قاعدة انطلاق لها نحو مناطق القوقاز ووسط آسيا، الأمر الذي يضع واشنطن على مقربة من نقاط الضعف في الأمن القومي الروسي في وسط آسيا، والأمن القومي الصيني في شمال غرب الصين، والأمن القومي الإيراني في خراسان في شمال شرق إيران. وكانت واشنطن تخطط لاحتواء إيران التي تشكل جسر عبور للصين نحو شرق المتوسط، عبر إقامة تحالف بين ثلاث عواصم سنية هي أنقرة والرياض والقاهرة. وحتى تتمكن من تحقيق هدفها فإنها كانت تخطط لنقل الحكم في تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر إلى الإخوان المسلمين.
لذلك بدأت واشنطن بإحداث تغيير في تركيا عبر اختلاق أزمة مالية أطاحت بحكومة بولنت أجاويد ومهدت لصعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وقد سبق ذلك زيارة سرية قام بها أردوغان إلى واشنطن سبقت خوض حزبه للانتخابات وفوزه بها. مع حلول العام 2011، وبعد عامين من وصول باراك أوباما إلى السلطة في الولايات المتحدة، بدأت واشنطن بتنفيذ تصورها بإحداث تغيير في المنطقة عبر وسائل القوة الناعمة، بعدما كانت قد استنزفت قواها العسكرية في حربي أفغانستان والعراق. شكّلت الإطاحة بحسني مبارك في مصر في كانون ثاني يناير من العام 2011 مقدمة لصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، وهو ما تحقق مع انتخاب القيادي في الإخوان المسلمين محمد مرسي رئيساً لمصر في العام 2012. في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة تسعى لاستبدال حكم آل سعود في المملكة العربية السعودية بالإخوان المسلمين.
أسباب الغضب الأميركي الغربي على أردوغان
لكن عوامل كثيرة من ضمنها سوء إدارة الإخوان المسلمين للسلطة في مصر أدت إلى ثورة ضدهم برعاية الجيش ودعم سعودي – إماراتي لوزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي الذي أطاح بمحمد مرسي والإخوان المسلمين في حزيران 2013. هذا ترافق مع انقلاب بعض الجماعات الإسلامية ضد أردوغان على خلفية نزوعه للاستئثار بالسلطة على حساب التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ومن أبرز هذه الفئات جماعة فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسيلفانيا الأمريكية، وهي الجماعة الأكثر قرباً من الولايات المتحدة وإسرائيل في تركيا.
سبب آخر لانقلاب هذه الجماعات ضد أردوغان هو غضب الولايات المتحدة عليه. فواشنطن اكتشفت أن أردوغان قد مكّن أقدامه في السلطة ولم يعد مطواعاً بين يديها. إضافة إلى ذلك فهي اكتشفت أن مقربين من أردوغان من بينهم ابنه نجم الدين بلال قد ذهب بعيداً في العلاقة "المالية" مع إيران، ما مكّن طهران من خرق العقوبات المفروضة عليها وساعدها في تدوير 230 مليار دولار ما بين العامين 2009 و2011 عبر مصارف وبنوك يديرها نجم الدين بلال من ضمنها بنك الشعب. أمّا السبب الآخر الذي ساهم في خلق عناصر خلاف بين أردوغان وواشنطن فكان قلق الأول من دعم الأخيرة للانفصاليين الأكراد في شمال العراق وسوريا. وقد خشي أردوغان ومن حوله ضباط الجيش التركي أن يتحول شمال العراق وسوريا إلى قاعدة للانفصاليين الأكراد في شرق الأناضول.
رد فعل أردوغان
مجمل هذه العوامل جعلت أردوغان يسعى لتنويع تحالفاته وعدم اقتصارها على العلاقة مع واشنطن والغرب. هذا ما دفعه لتحسين العلاقات مع إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى.
وفي تموز من العام 2016، واجه أردوغان محاولة انقلاب من قبل بعض قطاعات الجيش بدعم من واشنطن، فساهمت معلومات وصلته من روسيا وإيران قبل ساعات من الانقلاب في تمكنه من إفشاله. ومنذ ذلك التاريخ ويسعى أردوغان للعب على وتر التناقضات بين الأميركيين من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، ما أعطاه هامشاً من المناورة وقدرة على انتزاع أكبر قدر من المكاسب، وهو ما ظهر مؤخراً خلال الأزمة الأوكرانية حين لعبت تركيا دور الوسيط بين الروس من جهة والغرب من جهة أخرى.
أقلق هذا الأمر الولايات المتحدة والغرب. فتركيا تشكل جزءاً عضوياً من الاستراتيجية الأميركية الأطلسية منذ الخمسينيات من القرن الماضي في مواجهة روسيا والقوى الأوراسية. وما قام به أردوغان ساهم بتصدع الناتو خصوصاً في منطقة أوروبا الشرقية وشرق المتوسط. فلقد ساهمت العلاقة بين أنقرة وطهران في تمكين إيران من "خردقة" منظومة العقوبات الأميركية عليها، كما ساهمت العلاقات بين أنقرة وموسكو من تخفيف وطأة الحصار الذي تحاول واشنطن فرضه على روسيا في الجنوب انطلاقاً من منطقة القوقاز. وإن كانت العلاقة بين أنقرة وموسكو لا تتناقض مع توجهات إدارة جمهورية في الولايات المتحدة على رأسها الرئيس السابق دونالد ترامب، فإن هذه العلاقة تشكل خطيئة لا تغتفر بالنسبة لإدارة ديمقراطية برئاسة الرئيس جو بايدن. هذا ما دفع الإدارة الأميركية لمباركة جهود المعارضة التركية للسعي للإطاحة بأردوغان، وهو ما تأمل بتحقيقه في الانتخابات المقبلة بعد نحو مئة يوم من الآن.