أمين قمورية
بغضّ النظر عمّن نفذ الغارة على مصانع "الدرونز" في أصفهان، فإن العملية تحمل بصمات أميركية وإسرائيلية. الهجوم العسكري هو رسالة أكثر من كونه إعلان حرب. ولكل من واشنطن وتل ابيب هدفا من توجيه هذه الرسالة التي تأتي في أعقاب المناورات الأميركية الإسرائيلية الموجهة بشكل واضح ضد إيران، وشملت التدرب على التعامل مع التهديدات النووية.
لا يمكن الفصل بين هذا الهجوم وبين ما يجري على الأرض الأوكرانية، وقد يكون رداً أميركياً مباشراً على دعم إيران لموسكو بالمسيرات بهدف وقفه، والأرجح أن يستمر استهداف طهران إن أصرت على إرسال مسيراتها وصواريخها. أميركا منشغلة بكليّتها في الصراع على أوكرانيا، والرئيس جو بايدن لم يعد يفصل أي قضية في العالم عن أوكرانيا، من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى الصين وأميركا اللاتينية، إلى الانقسامات الحادة في الداخل الأميركي. هناك تتقرر زعامة أميركا للعالم.
على رغم العقبات التي تحول دون توسيع نطاق التعاون بين روسيا وإيران، فإن المحور الروسي الإيراني الذي بدأ يظهر في أعقاب غزو أوكرانيا، يثير التساؤلات في واشنطن وتل أبيب خصوصاً والغرب عموماً، حول الثمن الذي قد تقدمه موسكو لطهران مكافأة على دعمها لها. فهل يكون المقابل تزويد النظام الإيراني بطائرات مقاتلة، وأنظمة دفاع جوي، وطائرات هليكوبتر، فضلاً عن مساعدة بحرية على شكل سفن حربية؟ وهل تساهم المساعدة الروسية لطهران بتكثيف حملة القمع التي تشنّها إيران في الداخل، وعلى مواصلة تصدير الثورة إلى الخارج؟
صحيح أن طهران لا تملك الأموال اللازمة لشراء كميات كبيرة من الأسلحة التقليدية الباهظة الثمن، ولم تتضح بعد الكمية التي تبدو موسكو مستعدة أو قادرة على تزويدها بها في الوقت الذي يتكبد فيه جيشها خسائر فادحة في أوكرانيا. لكن عمليات نقل محدودة للأسلحة والتكنولوجيا قد تسمح لإيران بسد الفجوات التي تعانيها بنية قوتها العسكرية، والتحديث الانتقائي، وتعزيز قدرات إنتاج الأسلحة المحلية وتطوير دفاعاتها الجوية الأرضية وتكثيفها، مستخدمةً مجموعة من الأنظمة المُنتجة محلياً وبطاريات صواريخ "أس-300" الروسية. . وفي حال استلمت إيران كميات كافية من الصواريخ الاعتراضية ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة، فقد تزداد صعوبة شن إسرائيل ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وضربات جوية ضد قواتها في سوريا إذا تمّ نشر هذه الصواريخ ضمن أراضيها.
ومن المرجح أن يكون شكل المساعدة الذي قد تقدمه روسيا إلى إيران في المجال النووي ذو طابع دبلوماسي. فخلال الأشهر القليلة الماضية، زادت موسكو دعمها لإيران في مجلس محافظي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، ومن المتوقع أن تواصل حمايتها من الإحالة إلى مجلس الأمن بسبب عدم امتثال نظامها لالتزامات الضمانات النووية.
وقد يكون لروسيا أيضاً مساهمة في مساعي إيران المستقبلية المحتملة لصنع أسلحة نووية من خلال تزويدها بالتكنولوجيا والدراية، سواء سراً أو علناً، على رغم الموقف الرسمي للكرملين المناهض لتطوير أوكرانيا أسلحة نووية.
وهكذا فان الامر مقلق أكثر للدولة العبرية وحكومتها المتطرفة، فمنذ اليوم الأول لتسلمه منصبه تعهد بنيامين نتنياهو التصدي لإيران ومنعها من امتلاك الأسلحة النوعية والقدرة النووية، وتحدث عن نيته تدمير المفاعلات النووية الإيرانية "قبل أن تصبح طوقاً يُحكم الخناق على رقبة إسرائيل". ويتباهى بأنه هو من أقنع دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقّعه سلفه الديموقراطي باراك أوباما عام 2015، بينما يواصل الطيران الإسرائيلي غاراته الجوية شبه اليومية على القوافل والمواقع الإيرانية في سوريا.
لا شك في أن الإيرانيين عندما قرروا أن يصبحوا المزود الرئيسي لموسكو بـ "الدرونز"، كانوا يدركون خطورة اللعبة التي يلعبونها، ولعل هدفهم من وراء ذلك كان إشهار ورقة قوية في وجه الغرب للمساومة للعودة وفق شروطها إلى طاولة الاتفاق النووي المعطلة، إضافة الى ورقتي النفط والغاز اللتين عادتا إلى الواجهة بعد الحرب الأوكرانية والخلاف الأميركي الصيني. باختصار دخلت إيران على الخط غير المباشر لحرب أوكرانيا وعينها على مفاوضات فيينا. المفاجأة كانت ردة فعل إدارة بايدن بضرب إيران مباشرة أو بواسطة إسرائيل، وليس استهداف حلفائها في الخارج كما كان يحدث في الماضي، والهدف واضح وهو إجبارها على التوقف عن مواصلة سياسة حافة الهاوية.
ولدى الأميركيين والإسرائيليين، إن رغبوا، القدرة العسكرية على تدمير المنظومة الإيرانية لصناعة المسيّرات، خاصةً أنها مكشوفة ويمكن الوصول إليها، بخلاف المفاعلات النووية المحصنة تحت الأرض وبغطاء إسمنتي تتجاوز سماكته المترين.
لكن الاستعراض شيء والدخول المباشر في معركة كبرى شيء آخر. المسألة ليست في القدرة العسكرية على القيام بذلك، لكن بطرح السؤال الكبير: هل تغامر أميركا بفتح حرب مع إيران في هذا الوقت بالذات، حيث بلغت المواجهة الأطلسية الروسية ذروتها في أوكرانيا؟ من سيستفيد من هذه الحرب أياً تكن نتائجها.. أليست روسيا والصين؟ وإذا خرجت إيران منها متماسكة هل يمكن إعادتها إلى طاولة المفاوضات أو يمكن منعها من توسيع تمددها الإقليمي والقفز عن العتبة النووية نحو امتلاك السلاح المدمر؟ هل ذلك يوقف الصراع الدولي أو يؤججه أكثر وأكثر ويعزّز بناء المحاور السياسية الكبرى المتقابلة؟ وكيف ستكون صورة الشرق الأوسط بعده؟
طبعا كل هذا المشهد يمكن أن ينقلب رأساً على عقب إذا ما استطاعت إيران تغيير المعادلة بمساومة واشنطن بالابتعاد خطوة عن موسكو في مقابل خطوة أميركية في اتجاه إعادة احياء مسار جنيف، والتوصل إلى اتفاق نووي جديد، ذلك أن الغرب يفضّل الآن تحجيم فلاديمير بوتين قبل تحجيم النظام في طهران؟
في ضوء الصراع من أجل بناء نظام عالمي جديد، ترتسم معالم النظام الإقليمي المقبل لاسيما في هذه المنطقة الحساسة من العالم التي صارت ساحة جذب وتقاسم للنفوذ، وباتت فيها إيران لاعبا أساسياً رغم علامات الشيخوخة التي بدأت تنتاب نظامها، لذا كل تفصيل يحدث فيها جدير بالتوقف عنده.