طارق ترشيشي
يقول أحد "الطائفيين"(نسبة إلى اتفاق الطائف) أن صلاحيات رئيس الجمهورية لو كانت بـ"الهزال" الذي يتحدث عنه البعض لما كان حصل ويحصل في كل استحقاق رئاسي مثل هذه المنافسات والسباقات المحمومة، وأحياناً النزاعات، بين القوى السياسية والطائفية على اختيار هذه الشخصية او تلك لسدة رئاسة الجمهورية.
فـ"اتفاق الطائف"، يضيف هذا "الطائفي"، أعطى رئيس الجمهورية، مرتبة كبرى بحيث جعله "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن" وجعله "القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء"، وجعله أيضاً حَكَماً بين كل السلطات وضابطاً لعملها ومنزهاً من أن يكون طرفاً في عمل السلطة التنفيذية التي أخذها "الطائف" منه وأناطها بمجلس الوزراء مجتمعاً وتتمثل فيه جميع الطوائف والقوى السياسية بما يحقق المشاركة الوطنية الشاملة في القرار، بعدما كان الرئيس في دستور ما قبل "الطائف" يتولّى هذه السلطة بنفسه ومباشرة بمعاونة وزراء يختار من بينهم وزيراً يسميه "رئيس الوزراء" وليس "رئيس مجلس الوزراء".
وفات القائلين، حسب هذا "الطائفي"، أن رئيس الجمهورية بات بلا صلاحيات أن لديه العديد من الصلاحيات فمن دونه لا تبرم معاهدات دولية أعطاه الدستور صلاحية التفاوض عليها وعقدها. كما أن هناك أشياء وأشياء لا يمكن إصدارها أو إمرارها من دون موافقته في مختلف المجالات. ولذلك من غير المنطقي ان يقول البعض في أي مناسبة أن رئيس الجمهورية بات "باش كاتب" عند رئيس الحكومة، علماً أن هذا الاخير كان يسميه البعض "باش كاتب" عند رئيس الجمهورية الذي كان رئيس السلطة التنفيذية والآمر الناهي في كل شيء، بحيث كان يختار رئيس الحكومة والوزراء، كذلك يختار أو يرجّح كفّة من يريده رئيساً لمجلس النواب، من خلال امتلاكه او استمالته كتلة نيابية كبيرة مرجحة بأصواتها في أي عملية انتخابية أو في إصدار أي قانون وإسقاط آخر.
ما تغير بعد اتفاق الطائف هو طريقة اختيار رئيس الجمهورية في كل استحقاق رئاسي، فبعد رحيل القيادات المسيحية والمارونية التاريخية تحديداً، بدا أن الباب وكأنه أُقفل أمام أن يكون الاختيار من الطبقة السياسية المارونية، ليأتي دور العسكر مجدداً تأثراً بتجربة الرئيس الراحل فؤاد شهاب التي يجمع كثيرون على أنها كانت تجربة ناجحة كان لها إنجازاتها الإصلاحية على مستوى إدارات الدولة من حيث تنظيمها وتحديثها ومكافحة الفساد الذي كان يسودها في تلك الحقبة.
والبعض يقول أن ما فرض الإتيان بعسكري إلى رئاسة الجمهورية منذ عهد الرئيس العماد إميل لحود إلى عهد الرئيس العماد ميشال عون وما بينهما عهد الرئيس ميشال سليمان سببه خليط من العوامل الداخلية والتدخلات الخارجية في الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية، والتبدل في الواقع السياسي ومنافساته ونزاعاته بين الأحزاب والقوى المسيحية ما جعلها عاجزة عن الاتفاق على مرشح رئاسي واحد، ويضاف إلى كل هذه الأسباب "الديموقراطية التوافقية" التي تجذرت بموجب اتفاق الطائف بحيث أن كل استحقاق لبناني صغيراً كان أم كبيراً يفرض توافق كل ألوان الطيف اللبناني حتى يكتب له الإنجاز.
لكن اللجوء إلى العسكر كخيار رئاسي مثلما هو مقبول أو غير مقبول مسيحياً، فإنه كذلك عند المسلمين، وكذلك لدى القوى والعواصم العربية والأجنبية التي تهتم بالشأن اللبناني... ومثلما يحصل من تململ في بعض الأوساط السياسية المسيحية من الإتيان بعسكري لرئاسة الجمهورية يحصل تململ في بعض الأوساط الإسلامية أيضاً، لكن يصادف تحديداً منذ عهد الرئيس لحود أن الخيار الرئاسي العسكري يكون حلاً لمعضلة الوقوع في الفراغ، بعد الفشل في التوافق على شخصية سياسية.
ويروي "الطائفي" إياه أنه في إحدى جلسات لجنة صياغة "وثيقة الوفاق الوطني" المعروفة بـ"اتفاق الطائف" التي انبثقت من مؤتمر النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية، وعند البحث في بند المداورة في وظائف الفئة الأولى بين المسيحيين والمسلمين، فاجأ رئيس حزب الكتائب السابق النائب جورج سعادة رئيس مجلس النواب حسين الحسيني آنذاك، باقتراح إسناد قيادة الجيش إلى المسلمين، مبرراً ذلك بأن هذه القيادة تولّد مشكلة للطائفة المارونية، إذ ما أن يُعيّن قائد الجيش حتى يتحول فوراً مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وكان دافع سعادة إلى هذا الطرح طموح العماد ميشال عون الذي كان رئيساً للحكومة العسكرية التي شكلها حينها الرئيس أمين الجميل في نهاية عهده لتولي صلاحيات رئاسة الجمهورية بعد تعطيل جلسة انتخاب الرئيس في آب 1988.
تم إقرار "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب وفرض إصلاحات دستورية تسير البلاد بموجبها منذ العام 1990 وإلى اليوم. وكانت المفارقة أن عون الذي عارض "اتفاق الطائف" لسنوات طويلة عاد ووصل إلى رئاسة الجمهورية بموجب هذا الاتفاق في 31 تشرين الاول 2016، وذلك بعد سنتين ونصف السنة من فراغ رئاسي أعقب انتهاء ولاية الرئيس سليمان، الذي جاء إلى الرئاسة بموجب اتفاق الدوحة 2008 تحت ضغط الظروف القاهرة وخلافاً للدستور الذي كان يفرض عليه الاستقالة من وظيفته قبل سنتين من موعد انتخابات الرئاسة إذا كان يرغب بالترشح لها.
وأكثر من ذلك ثمة من طرح في مؤتمر الطائف أن يتم تكريس توزيع رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة طائفياً بنص واضح وصريح، وإنهاء العرف المعمول به في شأنها منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943، لكن الرئيسين حسين الحسيني وصائب سلام ومعهما كثير من النواب رفضوا هذا الطرح رفضا مطلقا، مؤكدين انهم لا يمكنهم إلزام الأجيال اللبنانية بهذه الحصرية الطائفية للرئاسات، وقال بعضهم أن تلك الأجيال ربما يكون لها رأي آخر مع الزمن وتطور الحياة السياسية في لبنان، خصوصاً وأن اتفاق الطائف نصّ على إلغاء الطائفية السياسية وحدّد آلية لهذه الغاية كرّست في المادة 95 من الدستور الحالي.
حتّى أن البعض من المؤتمرين في الطائف اقترح اعتماد المداورة في الرئاسات الثلاث وذلك عند إقرار مبدأ المداورة في وظائف الفئة الأولى بين الطوائف على أن لا تكون أي وظيفة حكراً على هذه الطائفة أو تلك، ولكن المؤتمرين انقسموا حول هذا الأمر، وكان الرأي الراجح إبقاء الرئاسات الثلاث كما هو معمول بها عرفاً إلى حين إقرار إلغاء الطائفية السياسية.