أمين قمورية

رجب طيب أردوغان الذي احتكر الحكم في تركيا طوال العقدين الماضيين وتحول خلالهما إلى واحد من أبرز القادة في العالم، يستعد اليوم لخوض استحقاقين انتخابيين مفصليين ومهمّين لن تقتصر تداعياتهما على الساحة الداخلية، بل تتعداها إلى أرجاء الإقليم التي باتت تركيا لاعباً فاعلاً فيه.

خاض أردوغان وحزب العدالة والتنمية خمسة عشر انتخاباً خلال العقدين الماضيين وفاز فيها كلها رغم المعوقات والعقبات، الأمر جعل منه خبيراً انتخابياً وسياسياً محنّكاً، قادر على تحويل السلبيات إلى إيجابيات وتغيير قناعات الناخب وتوجهاته تبعاً للظروف والمستجدات.

تركيا على موعد مع انتخابات رئاسية واشتراعية حاسمة في 18 حزيران المقبل (وربما يجري تبكيرها إلى أيار)، ذلك أن النظام الرئاسي، جعل الاصطفاف حاداً، بعدما قسّم تركيا إلى ما يشبه الإنقسام الانتخابي الأميركي بين حزبين كبيرين. وهذا النظام الذي أراده أردوغان لإطباق قبضته على الحكم، قد يكون اللغم الذي سيتسبب بخسارة حزب العدالة للرئاسة والبرلمان معا. وهو الذي دفع بأحزاب المعارضة الرئيسية الستة إلى الالتقاء حول طاولة واحدة لمواجهة خصمها اللدود أردوغان، رغم أنها تختلف على كل شيء ولا تلتقي سوى على التخلص من الرئيس وحكمه. مع التذكير أن بعض هذه الأحزاب خرجت من رحم الحزب الحاكم نفسه وخلقت تحدياً غير مسبوقٍ له.

وكان هذا الانقسام ظهر في انتخابات 2018 بعدما أقرّ مجلس الأمة الكبير (البرلمان) التركي فكرة التحالفات الانتخابية بين الأحزاب السياسية، وكانت نتيجتها "تحالف الجمهور" الحاكم المكوّن من أحزاب العدالة والتنمية والحركة القومية والاتحاد الكبير، في مواجهة "تحالف الأمّة" المعارض المكون من أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة والديمقراطي.

آنذاك نجح "تحالف الجمهور" بقيادة أردوغان، وفي المقابل واصل "تحالف الأمّة" المعارض لقاءاته المتمحورة على فكرة العودة بتركيا إلى النظام البرلماني ومواجهة الحاكم. ونجحت المعارضة بعد ذلك في تحقيق انتصارات كبيرة في الانتخابات المحلية والبلدية، حيث اكتسحت بلديات أهم المدن وفي مقدمها اسطنبول وأنقرة ، ما جعل الرياح تميل لصالح المعارضة وتجعل العدالة والتنمية يشعر بفداحة الخسارة والجرح العميق.

[caption id="attachment_3322" align="aligncenter" width="2560"] تركيا المنافسة الحزبية تتصاعد[/caption]

وانضم لاحقاً إلى الأحزاب الأربعة المعارضة حزبان انشقّا عن العدالة والتنمية وأسسهما قياديان سابقان فيه: المستقبل برئاسة وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، والديمقراطية والتقدم برئاسة نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان. وبسبب الخلافات والاختلافات بينها، لم تسمِّ هذه الأحزاب نفسها "تحالفاً"، بل اختارت اسم "الطاولة السداسية" الذي يحيل إلى التشاور والتنسيق بشكل أكبر ويوحي ضمنا بالتساوي بين الأحزاب. بيد أن المعارضة التي نحّت خلافاتها العميقة جانباً وجلست إلى طاولة واحدة،  لم تنجح بعد في الاتفاق على تسمية مرشح واحد للرئاسة، ولا على مواصفات الرئيس المقبل وصلاحياته رغم الاجتماعات الماراتونية بينها، ورغم وجود مرشحين أقوياء أمثال، رئيس بلدية إسطنبول إمام أكرم أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشيدار، رئيسة حزب “أيي” (الجيد) ميرال أكشنار ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش.

وعدم حسم حصان السبق قد يضيّع على المعارضة فرصة اغتنام أوراق عدة قوية يمكن لها اغتنامها لخوض مواجهة كبرى مع الطامح التركي كي يكون سلطاناً عثمانياً جديداً، أبرز هذه الأوراق:

  • الوضع الاقتصادي، فبعدما كان النمو الكبير والازدهار وارتفاع الموارد والإنجازات الخدماتية والتطور الصناعي والزراعي والتجاري والانفتاح السياحي، رافعة أساسية لحزب العدالة، فقد ي ارتفاع الأسعار وتدهور الليرة التركية وغلاء المواد الأساسية والضيقة المعيشية والسكنية، المقصلة التي تنهي مسيرته السياسية. وعليه، فقد أقدمت الحكومة التركية على اتخاذ إجراءات عدة للتخفيف من حدّة الازمة، ملخّصها تخفيف الجباية الحكومية وزيادة الصرف الحكومي في المقابل، لا سيما تجاه الشرائح الضعيفة. لكن الخطوة الأهم كانت رفع الحد الأدنى للأجور مرتين وبنسبة قياسية العام الفائت، ومن المتوقع أن ترفعه مجدداً قبل الانتخابات بنسبة مقبولة.
  • التعبئة ضد اللاجئين السوريين وارتفاع وتيرة الكراهية والتذمر الشعبي والتململ من الوجود السوري كان مشجعا لأحزاب المعارضة التي بدأت تنادي بأنها تمتلك العصى السحرية لحل هذه المشكل، وذلك بالجلوس مع الرئيس السوري بشار الاسد وتأمين العودة الآمنة للاجئين السوريين، وهي تعتبر ان سياسة الحزب الحاكم في الأزمة السورية، هي التي ساهمت في تدفق أربعة ملايين لاجئ وزيادة الضغوط الاقتصادية، فضلا عن ان الفوضى التي حدثت في سوريا نتيجة للحرب هي التي سمحت للأكراد السوريين وقواهم السياسية بإقامة كيان مسلح معادٍ لأنقرة على الحدود الجنوبية لتركيا. لذلك عندما يتحدث أردوغان عن الإنفتاح على سوريا، فإن ملفّي اللاجئين والنفوذ الكردي في شمال شرق سوريا، هما على رأس أولوياته. ومن دون معالجة هذين الملفين، فإن الطريق إلى ولاية رئاسية ثالثة ستكون صعبة ومفخّخة بالالغام.
  • تصاعد التوتر بين أنقرة وواشنطن وتفاؤل المعارضة بتصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أن يصبح رئيساً وقوله وتعهده بدعم المعارضة التركية لإطاحة أردوغان الذي قال أنه "يجب أن يدفع الثمن هذه المرة". وهذا ما حدا بأردوغان إلى إيفاد وزير خارجيته إلى واشنطن للمرة الأولى منذ تولي بايدن السلطة لإجراء مراجعة للعلاقات الثنائية بين الدولتين، ولاستثمار ما يمكن أن تقدمه تركيا لحلف الأطلسي في حرب أوكرانيا.
  • فشل سياسة " تصفير المشاكل" وتراكم خلافات تركيا مع الدول الإقليمية من مصر والسعودية والإمارات وسوريا وصولاً إلى دول أوروبية مثل فرنسا واليونان وأخيراً السويد ودول البلطيق، وهذا ما جعل عصب المعارضة يقوى ويشتد حيث بدأت تنادي بأنها هي التي ستنقذ تركيا من عزلتها. وهذا ربما كان الدافع لإجراء الحكومة التركية مراجعة لسياستها الخارجية والانفتاح على مصر والسعودية والإمارات وكذلك سوريا.

رغم هذه الأرضية الخصبة والساحات المناسبة للمعارضة للمرة الأولى، لا تزال غالبية استطلاعات الرأي لا تشير إلى ارتفاع كبير في حظوظ أحزابها، حتى الاستطلاعات التي تظهر تراجعاً محدوداً لحزب العدالة،  تبيّن أن الفارق هو في ارتفاع نسبة المترددين فقط ولا تصب بالضرورة في مصلحة الخصوم  الذين لا يزال يؤخذ عليهم تخبطهم في الرؤية تجاه النظام الرئاسي، وعدم حسم هوية المرشح الأوحد  رغم قول "الطاولة السداسية" إن التأخير تكتيك مقصود منها.

لكن ، ومع الحديث عن تبكير الانتخابات، وهو قرار في يد أردوغان وحده، فان ذلك سيضيّق هامش المناورة لدى المعارضة ويحدّ من قدرتها على الانخراط في حملتها الانتخابية. كذلك فان الاتفاق على مرشح واحد لا يمنع الأحزاب الصغيرة غير المنضوية في إطار "السداسية"، وبعضها منشق عن أحزاب فيها، من تقديم مرشحيها الخاصين بها ومن بينها حزب الشعوب الديموقراطي للأكراد، وهذا ما يساهم في بعثرة الأصوات.

وفي أي حال فان ثمة إجماع، على أهمية الانتخابات المقبلة، وعلى أنها الأصعب على حزب العدالة، وتبقى التوقّعات فيها والنتائج معتمدة على 3 عوامل رئيسية: الاقتصاد، مرشح المعارضة، والمفاجآت، والمقصود هنا أي تطورات من خارج السياق قد تكون ذات تأثير في توجهات الناخبين وأصواتهم، مثل عملية عسكرية في الشمال السوري أو تصاعد التوتر مع اليونان، مما يذكي المشاعر القومية .