أثبتت التجربة الحديثة في لبنان، أنه لا يُمكن الإتكال على الضمير في ما يخص التجارة في لبنان. كما أثبتت التجربة نفسها أن المركزية والإحتكار في بعض شركات القطاع العام (مؤسسة كهرباء لبنان، الاتصالات...)، فشلت في تأمين خدمة عامة للمواطنين تليق بإسمها. هذا الأمر لا يقتصر على لبنان (حتى ولو أن مستوى الفساد الهائل في لبنان عزز من هذا الأمر)، بل يشمل كل دول العالم. الإقتصادي الهندي أمارتيا سن عزى النقص في السلع والخدمات إلى الخلل في آليات التوزيع (بالطبع على رأسها الإحتكار). كما أن أب الاقتصاد الحر "آدم سميث" وضع شرطاً أساسياً لنجاح الاقتصاد الحرّ ألا وهو التنافسية.

دور الدولة في تنظيم وتشريع ومراقبة اللعبة الإقتصادية يجعلها تفرض قيودًا على هذه اللعبة من خلال قوانين تفرض شروطًا على الشركات التي تُمارس نشاطها الإقتصادي في القطاع المعني. إلا أن الفساد وتشابك المصالح بين السلطة والقطاع الخاص، يضع بعض القيود في خدمة بعض الشركات التي تتشابك مصالحها مع مصالح السلطة السياسية. وبحجّة الحماية، كانت مُعظم هذه القيود تُفضّل الشركات الوطنية على الأجنبية إلى حدّ أنها أصبحت لصالح الشركات المُستفيدة على حساب الشركات الوطنية الأخرى.

وبالتالي تنصّ العلوم الإقتصادية على أن تحرير القطاعات الإقتصادية من القيود، يجعلها عرضة للمنافسة وبالتالي خفض الأسعار بشكل تلقائي. ويأتي التبرير الإقتصادي للتحرير بأن القيود "المُتعجّرفة" تخفض الإستثمارات وتُعيق النمو الإقتصادي مما يعني أن سلبيات التنظيم المُتعجّرف أكثر من إيجابياته.

الأسواق المالية هي القطاع الإقتصادي الأول في العالم الذي ذهب إلى التحرير والعولمة وذلك منذ منتصف القرن الماضي مع إزدياد الحاجة إلى التمويل. هذا التحرير ترافق مع شفافية مُطلقة لحسابات الشركات التي تتعاطى في السوق. وبدأ بعدها تحرير القطاعات الإقتصادية حيث أن المثال الصارخ هو مثال بريطانيا في عهد المرأة الحديدية مارغريت تاتشر والتي حررّت (وخصخصت) كل القطاعات بشكل أصبح معها سعر بيع الكهرباء مثلًا من الأرخص في العالم (سعر الكيلوواط ساعة مُتداول في البورصة).

تعاظم فكرة حماية المُستهلك دفع إلى إعادة النظر في عملية تحرير القطاعات الإقتصادية. وإذا كانت الدوّل في معظمها سنّت قوانين لحماية المُستهلك، إلا أن العديد منها عزّز قوانينه في ما يخصّ المنافسة.

المُنافسة كما تصوّرها آدم سميت هي منافسة مثالية لا تُشبه بأي شكل من الأشكال ما يحصل في لبنان حيث أن الإحتكار (Oligopoly) يُسيطر على السوق اللبناني. ونرى أنه وفي كل قطاع هناك عدد محدود من الشركات تُسيطر على السوق بالكامل وخصوصًا في القطاع التجاري (بالدرجة الأولى) والقطاع الصناعي (بالدرجة الثانية). القوانين اللبنانية تحمي هذه الشركات بحجّة أنها شركات لبنانية تُوظّف عمالاً لبنانيين. إلا أن الواقع على الأرض يُثبت أن نسبة العاملين اللبنانيين خصوصًا في المُهن التي تتطلّب مجهودًا جسديًا، مُتدنيّة جدًا وتصل في بعض الأوقات إلى أقلّ من 1% من العاملين في القطاع!

في القطاع التجاري، نرى أن ما يُسمّى بالنقابات أو التجمّعات هي عبارة عن مجموعة مُحتكرين (Oligopoly) حيث أنهم يُشكّلون قدرة شرائية (Centrale d’achat) تُخفّض أسعار شرائها وتتوافق على أسعار البيع (Illicit Agreement) بشكل أن الأرباح موزّعة بحسب الحجم السوقي لهذه الشركات.

وتُشير المعلومات أن العديد من الشركات يتشاركون إستيراد السلع (مثلًا قطاع المحروقات) حيث يتم توزيع حمولة كل باخرة على التجار بحسب نسب مُتفق عليها مُسبقًا وهو ما يُلغي حكمًا مبدأ التنافسية.

تحرير القطاعات الإقتصادية – مع إلزامية نسبة العاملين اللبنانيين في هذه القطاعات – سيؤدّي حكمًا إلى رفع فرص الإستثمار عبر دخول شركات جديدة إلى السوق اللبناني سواء كانت أجنبية أو محلية كما أنها ستسمح بخفض الأسعار بشكل كبير خصوصًا أن الأرقام الصادرة عن مراكز الإحصاء صنّفت لبنان من بين الدول ذات الأسعار العالية إقليميًا وهو ما يعني فقدان المنافسة في لبنان على عكس ما يدّعيه التجار من أن إقتصاد لبنان هو إقتصاد حرّ. في الواقع الاقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ على الورق فقط!

من فوائد التحرير أيضًا زيادة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي صنفها البنك الدولي على أنها أداة أساسية في محاربة الفقر، وصنّفها صندوق النقد الدولي على أنها الأداة الأولى لإدخال التكنولوجيا إلى العملية الإنتاجية. الجدير ذكره أن نجاح الإقتصادين الأميركي والياباني يعود بنسبة كبيرة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والتي يزيد عددها في الولايات المُتحدة الأميركية مثلاً عن 30 مليون شركة!

كل القطاعات في لبنان بحاجة إلى تحرير مع تعزيز نقطتين أساسيتين: حماية المستهلك والعمالة الوطنية. وإذا أراد لبنان الخروج من أزمته الحالية عليه من دون أدنى شكّ تحرير كامل قطاعاته وهو ما يدّفع بإتجاهه صندوق النقد الدولي الذي يُشدّد على إنشاء الهيئات الناظمة في كل القطاعات. هذه الهيئات لها إيجابيات منها رفع يد السياسيين عن القطاعات الإقتصادية وتنظيم عمل القطاعات الإقتصادية بما فيه مصلحة الاقتصاد والمواطن.