امين قمورية
هل يحدث التّحول ويلتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره السوري بشار الأسد الذي وصفه ذات مرة بانه "إرهابيا" وبنى حساباته على أن نظامه سيسقط بسرعة البرق؟
بعد عقد كامل من الحرب الضروس بينهما، ألمح أردوغان إلى أنه يمكن أن يجتمع مع الأسد "لإحلال السلام في المنطقة"، في خطوة كان سبقها قبل أسبوع إرسال الدولتين وزيري الدفاع ورئيسي المخابرات، لإجراء محادثات في موسكو بحضور نظرائهم الروسيين، في أعلى مستوى لاجتماع بين أنقرة ودمشق منذ العام 2011.
تصرّف رأى البعض فيه احتمال أن يكون مناورة من "السلطان" أردوغان يراد منها إرغام واشنطن على تغيير سياساتها حيال أكراد سوريا ، أو "رشوة " لـ "القيصر" الروسي فلاديمير بوتين لضمان تكريسه وسيطاً مع أوكرانيا في حربهما المدمّرة وتحقيق مكاسب أمنية في الشمال السوري. الاحتمالان واردان، لكنهما لايحجبان حقيقة أن سوريا باتت حاجة ملحّة لأردوغان قبل خوضه معركة التجديد الرئاسية في حزيران المقبل.
الاقتصاد الذي حمل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة قبل عقدين قد يكون المقصلة لهذه المسيرة. المؤشرات لا تصب في مصلحة أردوغان في ظل تدهور سعر صرف الليرة التركية والارتفاع المستمر للتضخم. والوقت ضاغط عليه أكثر من أي يوم مضى، لاسيما مع اتفاق أحزاب المعارضة على خريطة طريق لتوحيد جهودها والوقوف خلف مرشح مواجهة واحد في الانتخابات المصيرية المقبلة.
كل الاستطلاعات تفيد أن أردوغان سيخسر المواجهة إذا ما نجحت المعارضة في تحقيق وحدتها الانتخابية، بعدما نجحت في جعل الملف السوري ولاسيما قضية اللاجئين ورقة رابحة في حملتها السياسية. هي تعتبر أن سياسة الحزب الحاكم في الأزمة السورية، هي التي ساهمت في تدفق أربعة ملايين لاجئ سوري إلى تركيا وزيادة الضغوط الاقتصادية، فضلاً عن أن الفوضى التي حدثت في سوريا نتيجة للحرب هي التي سمحت للأكراد السوريين وقواهم السياسية بإقامة كيان مسلح معاد لأنقرة على الحدود الجنوبية لتركيا. لذلك عندما يتحدث أردوغان عن الإنفتاح على سوريا، فإن ملفّي اللاجئين والنفوذ الكردي في شمال شرق سوريا، هما على رأس أولوياته بعدما بات إحراز تقدم فيهما مطلباً شعبياً في تركيا. ومن دون معالجة هذين الملفين، فإن الطريق إلى ولاية رئاسية ثالثة ستكون صعبة ومعبدة بالالغام.
إلى ذلك فإن عملية الإنفتاح التي بدأها أردوغان قبل سنوات على الدول الإقليمية من الخليج إلى مصر وإسرائيل لن تكتمل من دون إنهاء حالة العداء مع دمشق. ولاشك في أن الدول العربية ولاسيما الخليجية منها قد تجد في عملية التطبيع التركية السورية خطوة متقدمة على حساب النفوذ الايراني في سوريا، ولربما كان ذلك محرّك زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد إلى دمشق واتصاله عقب ذلك بنظيره التركي.
بَيْد أن التطبيع مع سوريا قد يضيف توتراً إضافياً على التّوترات القائمة فعلاً بين أردوغان وإدارة الرئيس جو بايدن التي سارعت إلى التلويح بأن “قانون قيصر” المطبّق على سوريا، ستنال مفاعيله الدول التي تنوي التعامل مع دمشق. كذلك فإن واشنطن لاتزال ترى في الملف السوري ورقة ضغط على روسيا في إطار المواجهة المتفاقمة بين الغرب وموسكو في أوكرانيا.
ورغم التهويل الأميركي على تركيا ، فإن واشنطن لن تغامر بتعريض علاقتها الإستراتيجية معها إلى الخطر لاسيما في ظل المواجهة الغربية مع روسيا، والتي قدمت فيها أنقرة خدمات كبيرة لكييف على غرار تزويدها الطائرات المسيرة الشديدة الفاعلية وتفعيل اتفاقية مونترو في شأن منع السفن الحربية الروسية من عبور البوسفور. لكن مجلس النواب التركي لم يصادق بعد على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وعملية الإنضمام ينظر إليها بايدن كنصر جيوسياسي كبير في مواجهة روسيا، ولا يريد إفساد هذه العملية التي تتوقف الآن على البرلمان التركي. فضلاً عن ذلك، ليس في إستطاعة واشنطن تقديم الثمن السياسي الكبير الذي يطالب به أردوغان، من أجل عدم الإنفتاح على دمشق. وهذا الثمن يتضمن ضوءاً أخضراً أميركياً لعملية عسكرية تركية واسعة ضد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يشكل الأكراد ركيزتها الأساسية في شمال شرق الفرات.
تبقى مشكلة أردوغان الآن مع المعارضة السورية، التي انتقدت علناً التطبيع مع دمشق. والمعضلة الأكبر التي ستواجه تركيا هي كيفية التعامل مع "الجيش الوطني" و“إمارة” تنظيم “هيئة تحرير الشام” بزعامة محمد الجولاني. أما بالنسبة إلى ”قسد”، تختلف أسباب القلق، لارتباطها بالتهديدات التركيّة بعمليّة عسكريّة، قد تصبح مشتركة مع الجيش السوري، كما لمّحت التصريحات التي أعقبت اللقاءات العسكريّة والأمنية التركية-السورية-الروسية.
وحتى لو التأمت القمة الموعودة، فإن عملية التطبيع تحتاج إلى وقت طويل ولن تكون قادرة على كسر الاستعصاء القائم في الأوضاع السوريّة الشديدة التعقيد. فمسار مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة لا يشير إلى أيّ تقدّم، والمفاوضات بين السلطات السوريّة و”قسد” ليست أفضل حالاً. كذلك فان دمشق وموسكو وطهران غير قادرين على تلبية مطالب أردوغان في القضاء على "الإرهاب" الكردي شمال شرق سوريا وإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم. كما أن روسيا الغارقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في حربها في أوكرانيا لا تزال عاجزة عن فرض تسوية ترضي جميع الأفرقاء المعنيين بالأزمة. كذلك فأنّ الدولة السوريّة ليست قادرة اليوم على احتواء المناطق الشمالية اجتماعياً واقتصاديّاً وليست قادرة على احتواء اللاجئين إن عادوا. كما لايمكن توقّع معركة عسكريّة مكلِفة جدّاً مع “الجيش الوطني” المعارِض أو “هيئة تحرير الشام”. وتعي دمشق أنّ السلطة التركيّة لن تتقارب معها من دون مقابل.
وفي أي حال، فان خطوات تطبيعية كهذه من شانها ان تحرك المياه الراكدة في بحيرة الازمة السورية، وتفتح فرصة للتفكير العقلاني بحل سياسي ما يتيح لاحقاً كسر الاستعصاء الذي طال كثيراً وبات الخروج منه يتطلّب صبراً طويلاً.