جمال واكيم

في العام 1991 انهار الاتحاد السوفياتي بعد وقوعه في حال من الجمود منذ أواسط الستينات، نتيجة الخيار الذي اتخذته القيادة السوفياتية المتمثلة بليونيد بريجنيف بتخفيف التوتر مع الولايات المتحدة، والانسحاب من ساحات عالمية عدة والاكتفاء بالنفوذ في شرق أوروبا وفقاً لاتفاقية يالطا، مع استثناءات في بعض المناطق في العالم.

 

واشنطن في ظل المحافظين الجدد

هذا الواقع جعل الولايات المتحدة تشعر بحرية الحركة والتصرف في العالم، خصوصاً مع وصول المحافظين الجدد الى السلطة في واشنطن، بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي. بدءًا من ذلك التاريخ شنّت الولايات المتحدة هجوماً لإسقاط الأنظمة المعادية للامبريالية في العالم الثالث فكان الانقلاب على أحمد بن بللا في الجزائر وكوامي نكروما في غانا احمد سوكارنو في اندونيسيا، الخ. كذلك فإن الولايات المتحدة سعت لاسقاط جمال عبد الناصر في مصر بدءًا من دعمها لمخطط تخريبي من قبل الإخوان المسلمين في العام 1965 مروراً بدعم إسرائيل في عدوانها على مصر وسورية والأردن في العام 1967 وانتهاء بوفاة عبد الناصر في العام 1970 ووصول أنور السادات إلى السلطة وقيادته عملية تحول في مصر وضعت هذا البلد تحت النفوذ الأميركي بدءًا من العام 1974.

هذا الواقع ساهم باكتمال عملية التطويق للاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الاشتراكية والتي كانت الولايات المتحدة قد بدأتها فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. فهي كانت قد أنشأت حلف شمال الأطلسي الناتو الذي يضم الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية (توسع الحلف بعد ذلك ليضم دولاً في وسط وشرق أوروبا) لتطويق كتلة الدول الاشتراكية من الغرب. كذلك قامت الولايات المتحدة بإنشاء حلف جنوب شرق آسيا لتطويق الصين والاتحاد السوفياتي من الشرق. وحاولت إنشاء حلف بغداد أو السنتو في منطقة المشرق لتطويق الاتحاد السوفياتي من الجنوب وهو ما سيتحقق لها مع وصول السادات الى السلطة في مصر.

 

الدفع لانهيار الاتحاد السوفياتي

بعد اكتمال عملية التطويق بدأت الولايات المتحدة بالضرب في العمق السوفياتي عبر تشجيع عمليات تمرد داخل الكتلة الاشتراكية على نفوذ الاتحاد السوفياتي فكان دعمها لنيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا. ودعمت التمرد الذي حصل في تشيكوسلوفاكيا تحت مسمى ربيع براغ في العام 1968 والذي لم ينته إلّا بتدخل عسكري سوفياتي في هذا البلد. كذلك دعمت الولايات المتحدة التمرد الذي اندلع في بولندا في أوائل السبعينات والذي قادته النقابات العمالية خصوصا في منطقة غدانسك.

بالتوازي مع هذا الاختراق فإن الولايات المتحدة ستستخدم ورقة البترودولار لممارسة الضغوط على الاقتصاد السوفياتي. كان هذا الاقتصاد يعاني من مشاكل بنيوية أهمها تخلف الصناعات المدنية السوفياتية عن الصناعات المدنية الغربية. هذا يعني أن موسكو كان عليها الاعتماد على عائدات النفط والغاز للحصول على النقد الأجنبي وشراء حاجاتها من القمح من السوق العالمية. لكن الولايات المتحدة كانت قد نجحت مع حلول العام 1976 وبالتعاون مع المملكة العربية السعودية بربط جميع مبيعات البترول في العالم بالدولار الأميركي. ومع حلول العام 1980 كانت الولايات المتحدة قد سعت الى تخفيض أسعار النفط العالمية لدعم الاقتصادات الغربية ما أثّر سلباً على عائدات الدول المنتجة للنفط وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي.

هذا يضاف إلى العوامل الأخرى في ممارسة ضغوط هائلة على الاتحاد السوفياتي ستجعله يرتضي الرضوخ للشروط الغربية خصوصاص مع وصول ميخائيل غورباتشوف الى السلطة في موسكو في العام 1985 وصولاً إلى انهاء الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين في العام 1989، وانهيار الأنظمة الشيوعية في البلدان الأوروبية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، وانتهاء بانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه في أواخر العام 1991 أوائل العام 1992.

 

السعي للهيمنة الأحادية على العالم

شكل انهيار الاتحاد السوفياتي فرصة تاريخية بالنسبة للولايات المتحدة لفرض هيمنتها الأحادية على العلاقات الدولية، وفرض منطقها ومنظومة قيمها تحت شعار العولمة. هنا ظهرت مقولة نهاية التاريخ التي تحدث عنها المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما المنتمي إلى فريق المحافظين الجدد، والذي بشّر بهزيمة كل النماذج التي تناهض الليبرالية الغربية وبهيمنة الغرب على العالم إلى الأبد.

رغم ذلك فإن المفكرين الغربيين كانوا يتحسبون لصعود قوى غير غربية تتحدى الهيمنة الأميركية والغربية على العالم. ولقد توقع الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (1969 – 1974) أن يصعد نجم قوى في أوراسيا تتحدى الهيمنة الغربية وعلى رأسها الصين وروسيا. وهو حذر من صعود نجم رجل قوي في روسيا يحل محل الرئيس بوريس يلتسين المدمن على الكحول والموالي للغرب، كما حذر من صعود نجم الصين وتقاربها مع روسيا، علما أن الخلاف السوفياتي – الصيني خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان قد ساهم في إضعاف كتلة الدول الاشتراكية وساعد الولايات المتحدة على إحكام الطوق على الاتحاد السوفياتي.

كان صناع القرار في الولايات المتحدة يعون حجم التراجع والتآكل الذي أصاب البنى الإنتاجية والتحتية في بلادهم، في الوقت الذي كانت اليابان وألمانيا ومن بعدهما الصين تحقق قفزات نوعية في تطوير وسائل الإنتاج. لذا فإن البديل بالنسبة للولايات المتحدة كان في السيطرة على التجارة الدولية عبر السيطرة على طرق الملاحة البحرية التي تمر بها 80 بالمئة من التجارة الدولية، إضافة إلى إبقاء هيمنة الدولار على المداولات التجارية.

هنا خرج مفكرون جيوسياسيون يتحدثون عن سبل إبقاء الهيمنة الأميركية، كان من أبرزهم زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق في الولايات المتحدة خلال رئاسة جيمي كارتر (1977 – 1981). وهو أصدر كتابا في العام 1997 بعنوان رقعة الشطرنج الكبرى تحدث فيه عن أهمية تطويق قلب أوراسيا (أي روسيا وجوارها المباشر) ومنعها من الوصول الى طرق الملاحة البحرية، إضافة الى ضرورة سيطرة واشنطن على وسط آسيا والشرق الأوسط التي أسماها بالبلقان الأوراسي مع منع أي قوة اوراسية من السيطرة على هذه المنطقة.

 

خلاصة

مع حلول الألفية الجديدة كانت جملة من المحاذير التي حذر منها نيكسون ومفكرون جيوسياسيون أميركيون قد تحققت لتقف حجر عثرة أمام مخططات الهيمنة الأميركية. فلقد كان التقارب الصيني الروسي قد تحقق ليرقى إلى مرتبة التحالف ضد الهيمنة الأميركية. كذلك فلقد قامت بكين وموسكو بإنشاء منظمة شنغهاي للتعاون التي كان الهدف الرئيسي منها هو تحقيق الأمن والاستقرار في وسط آسيا. كما أن روسيا كانت قد شهدت وصول رجل قومي قوي إلى السلطة وهو فلاديمير بوتين. هنا سترد واشنطن بغزو العراق وأفغانستان وبمحاولة تغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية وهو ما سيكون موضع بحثنا في مقالة مقبلة.