وراء ما يُوصف بـ«جنون» دونالد ترامب، وتشكيكه في أسس التجارة العالمية، والعاصفة التي ضربت الأسواق المالية، بل وحتى «الركود الاقتصادي» الذي يُحذر منه البعض، يكمن رهان واضح: قلب موازين القوى المالية والنقدية لصالح الولايات المتحدة. وككل رهان، فإن الخطوة تحمل في طياتها مجازفة كبرى. فهل ترامب رجل رؤية يسعى إلى مستقبل أفضل لبلاده، أم مقامر محترف يراهن على التفاوض كورقة رابحة؟
من المثير أن نلاحظ كيف قسّم ترامب، عبر قراراته الجمركية، دول العالم إلى فئات عدّة، وكأنها ناتجة عن ارتجال كامل. الفئة الأولى تضمّ «الدول التابعة»، المرتبطة مصيرًا بواشنطن، كالمملكة المتحدة، والمكسيك، وكندا. أما الفئة الثانية فهي «الحلفاء التاريخيون»، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي. وتأتي بعد ذلك «الدول العدوة»، وتحديدًا دول آسيا، وفي مقدّمتها الصين. التدرّج في الرسوم الجمركية يعكس بوضوح هذه الفئات السياسية والاقتصادية.
وبعد أن تجاوز العالم ذهوله من موجة التعريفات الجمركية المفاجئة، بدأت مرحلة التفاوض. اتصالات هاتفية، وزيارات لوفود أجنبية إلى البيت الأبيض، ومحاولات من جميع الأطراف للجلوس إلى طاولة واشنطن. الاتحاد الأوروبي يَعِد بردّ منسّق وحازم... لكن الانتظار قد يطول. الإدارة الأميركية تسعى إلى استخدام الرسوم الجمركية كورقة ضغط لإجبار الدول الأخرى على فتح أسواقها أمام الصادرات الأميركية، لا سيما في القطاعات العسكرية والفضائية. ولا شكّ أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومعداته سيبقون أميركيين في الجوهر والقيادة.
في الوقت ذاته، قد تؤدي الهشاشة المؤقتة في الاقتصاد الأميركي إلى تراجع قيمة الدولار، ما سيخلق بديلاً غير مباشر للحواجز الجمركية. هذا التراجع في سعر العملة الأميركية، وإن كان يزعج البنوك المركزية التي تحتفظ احتياطاتها بالدولار، إلا أنه قد يُستخدم كأداة تفاوض جديدة من قِبل واشنطن، في ظل تهديد مستمر برفع الرسوم الجمركية.
وفي خضم هذه التحولات، يطرح سيناريو «اتفاقيات مارالاغو» نفسه كإطار بديل عن النظام المالي الدولي الذي تأسس في بريتون وودز عام 1944، أو حتى اتفاق بلازا عام 1985. فهل نكون أمام نظام جديد يكرّس تراجع الدولار بشكل منسّق؟ وهل من الممكن أن نشهد تفكيكاً تدريجياً لمنظمة التجارة العالمية، بل وربما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أيضًا؟
بعض الخبراء يذهبون إلى حدّ القول إن «اتفاقيات مارالاغو» ستكون أشبه باتفاق بريتون وودز، إذ تمّ ربط العملات ببعضها عبر أسعار صرف ثابتة معتمدة على الذهب، لكن هذه المرة، من دون أي ارتباط فعلي بالمعدن الأصفر!
وفي ظل هذا السيناريو، ستربط بعض الدول عملاتها بالدولار، مقابل دخول مميز إلى السوق الأميركية، وضمانات أمنية، وفرص أفضل للوصول إلى التمويل بالدولار. أما أوروبا، فإن بقيت خارج هذا التوجّه، فقد تجد نفسها متأخرة عن الركب. إلا إذا قرّرت أخيرًا أن تتحدث بصوت اتحادي موحد. بيد أن الواقع يشير إلى مأزق حقيقي تعيشه بروكسل.
أمام أوروبا خياران أحلاهما مرّ: إما القبول بـ«اتفاقيات مارالاغو» وما تتضمنه من نظام صرف يخدم الدولار، ما قد يؤثر على صادراتها ونموها الاقتصادي، أو الرفض، ما قد يعرّضها لمزيد من الحواجز الجمركية، ويدفع باقتصادها نحو الركود.
ولمن يعتقد أن ما يحدث ليس إلا فوضى عارمة من الضجيج والغضب العابر، لا بد من التأني: فثمّة فرضية يتعامل معها خبراء مرموقون بجدية كاملة، وقد تحمل في طياتها ملامح نظام عالمي جديد... بقيادة ترامب.