يُعتبر القطاع الطبي في لبنان من الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، حيث لطالما تميز بجودته العالية وكفاءته التي جعلته وجهة للمرضى من مختلف دول المنطقة. يعود تاريخ الطب في لبنان إلى عقود طويلة، حيث شهد تطورًا ملحوظًا بفضل الجامعات الطبية العريقة مثل الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف، والمستشفيات المتخصصة التي قدمت خدمات طبية متقدمة. ويُعد هذا القطاع محركًا اقتصاديًا مهمًا، إذ يسهم في تشغيل آلاف الأطباء والممرضين والكوادر الطبية، فضلًا عن كونه عنصرًا جاذبًا للسياحة العلاجية.

التحديات التي واجهها القطاع الطبي في لبنان

على الرغم من تاريخه الحافل، واجه القطاع الطبي في لبنان تحديات هائلة في السنوات الأخيرة، أبرزها:

1. الأزمة الاقتصادية: أدت الأزمة المالية والاقتصادية المستمرة منذ عام 2019 إلى انهيار القدرة الشرائية لدى المواطنين، مما أثر على قدرة المستشفيات على تأمين المعدات الطبية والأدوية.

2. انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020): تسبب الانفجار في دمار واسع لعدد من المستشفيات والمراكز الطبية، مثل مستشفى القديس جاورجيوس أي مستشفى الروم، مما أثر على البنية التحتية الصحية.

3. هجرة الأطباء والممرضين: دفعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة وعدم توفر الرواتب الكافية العديد من الأطباء والممرضين إلى الهجرة. ووفقًا لتقارير رسمية، غادر لبنان حوالي 40% من الأطباء و30% من الممرضين منذ عام 2019.

4. ضعف السياسات الحكومية: تعاني الدولة من غياب استراتيجيات واضحة لدعم القطاع الصحي، مما يزيد من أعباء المستشفيات الخاصة والعامة.

في هذا الإطار، تقول الناشطة الحقوقية، د. جوزفين زغيب في حديثها لموقع "الصفا نيوز"، أنّ "القطاع الطبي في لبنان كان دائمًا من بين الأفضل في المنطقة، لكنه يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة. لقد أثرت الأزمات الاقتصادية، وهجرة الأطباء، وانفجار 4 آب بشكل مباشر على جودة الخدمات الصحية، لكن رغم ذلك، لا يزال الأطباء والممرضون يعملون بإصرار للحفاظ على هذا القطاع".

وتتابع "تمكن القطاع من الصمود في وجه التحديات بفضل إصرار المعنيين على استمرار القطاع، والمساعدات الغربية والمنح التي دعمت القطاع في أزمته، فضلا عن المبادرات الشخصية التي قام بها رجال أعمال لبنانيين ومغتربين، والتي ساهمت في إحياء القطاع والنهوض به من جديد، ولقد رأينا تطورًا ملحوظًا في استخدام التقنيات الحديثة، مثل الجراحة الروبوتية وزراعة الأجهزة اللاسلكية، لكننا بحاجة إلى دعم حكومي أكبر للحفاظ على هذا التقدم."

إنجازات طبية رغم التحديات

رغم هذه العقبات، أثبت القطاع الطبي اللبناني قدرته على الصمود من خلال تحقيق إنجازات طبية لافتة، كان أبرزها:

1. إدخال نظام الجراحة الروبوتية "فيرسيوس"

في خطوة متقدمة، وقع مستشفى أوتيل ديو دو فرانس وجامعة القديس يوسف اتفاقًا لتقديم نظام الجراحة الروبوتية "فيرسيوس"، الذي يعتبر نقلة نوعية في عالم الجراحة. يتميز النظام بذراع روبوتية دقيقة، ورؤية ثلاثية الأبعاد، وتقنيات تحكم متطورة تتيح للجراح إجراء عمليات معقدة بدقة تفوق اليد البشرية، مما يقلل من المضاعفات ويسرع عملية الشفاء.

2. أول عملية زراعة جهاز تنظيم ضربات القلب اللاسلكي "AVEIR"

في إنجاز جديد، نجح مستشفى اللبناني الجعيتاوي الجامعي، بقيادة الدكتور برنارد حربيه، في إجراء أول عملية زراعة جهاز "AVEIR"، وهو منظم ضربات قلب لاسلكي يوفر تجربة طبية طفيفة التوغل، ويسمح للمريض بالخروج في نفس اليوم، مما يعزز الراحة ويقلل المخاطر.

3. استمرار تطوير برامج تدريب الأطباء

على الرغم من الهجرة الطبية، لا تزال المستشفيات اللبنانية توفر برامج تدريبية متقدمة، مثل مركز التدريب على الجراحة الروبوتية الذي تم إنشاؤه في أوتيل ديو.

4. التطور في العلاجات الجراحية التخصصية

شهد لبنان مؤخرًا تطورات كبيرة في العلاجات الجراحية المتقدمة مثل زراعة الأعضاء، وعلاج أمراض القلب، وعلم الأورام، رغم النقص في التمويل.

مستقبل القطاع الصحي في لبنان

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي، د. خلدون عبد الصمد، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" أنّ "القطاع الصحي في لبنان ليس مجرد خدمة اجتماعية، بل هو محرك اقتصادي أساسي. قبل الأزمة، كان لبنان يُعرف بأنه مركز للسياحة الطبية في الشرق الأوسط، حيث كان يستقطب آلاف المرضى سنويًا للعلاج. هذا القطاع يوفر فرص عمل لآلاف الأطباء والممرضين والتقنيين، ويساهم بشكل مباشر في الناتج المحلي. إذا تم دعم المستشفيات والاستثمار في التكنولوجيا الطبية، يمكن للبنان استعادة مكانته كوجهة طبية رائدة، مما ينعكس إيجابيًا على الاقتصاد ككل."

واعتبر عبد الصمد، أنّه لضمان استمرار هذه الإنجازات، يحتاج القطاع الصحي إلى، دعم حكومي أكثر فعالية لتأمين التمويل المستدام للمستشفيات. بالإضافة إلى تعزيز استراتيجيات منع هجرة الكوادر الطبية من خلال تحسين الرواتب وظروف العمل. كما يجب الاستثمار في التكنولوجيا الطبية الحديثة لمواكبة التطورات العالمية".

في الختام، رغم الأزمات التي واجهها لبنان، يواصل القطاع الطبي تحقيق إنجازات لافتة تعكس صموده وإبداعه. وبينما تستمر التحديات، تبقى هذه الإنجازات بارقة أمل تؤكد أن لبنان قادر على الحفاظ على موقعه الريادي في المجال الطبي.