يشهد لبنان ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الاضطرابات النفسية، وهو ما يعكس واقعًا مأزومًا تعيشه البلاد نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتدهورة. هذا الواقع عكسته دراسة صادرة عن جمعية إدراك، المتخصصة بالصحة النفسية، وكشفت الدراسة التي أجريت على 1000 شخص، في الفترة الممتدة من تموز إلى أيلول 2022، أنّ 47 في المئة من هؤلاء الأشخاص عانوا أو يعانون من الاكتئاب، و45 في المئة منهم يعاني من القلق، بينما أكثر من 62 في المئة من هؤلاء قد يشكون من اضطرابات عقلية!
وفقًا للدكتور إيلي كرم، المدير التنفيذي لجمعية إدراك، فإن هذا الارتفاع يعود إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها الأزمة الاقتصادية الخانقة، انفجار مرفأ بيروت، جائحة كورونا، وعدم الاستقرار السياسي الذي زاد من الضغوط النفسية على المواطنين. هذه الأزمات المتتالية ساهمت في رفع مستويات التوتر والقلق والاكتئاب بين السكان، مما يهدد النسيج الاجتماعي اللبناني.
آثار الأزمات على الصحة النفسية
الأزمات المتلاحقة التي مر بها لبنان، بدءًا من الانهيار الاقتصادي وصولًا إلى جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، تركت آثارًا نفسية عميقة على جميع الفئات العمرية والمناطق دون استثناء. هذه الأحداث أدت إلى شعور عام بعدم الاستقرار وفقدان الأمل بالمستقبل، ما ساهم في زيادة معدلات القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بشكل غير مسبوق. كما انعكست هذه الأزمات على الإنتاجية العامة للأفراد، حيث أصبح العديد منهم أقل قدرة على العمل وأكثر تشاؤمًا حيال المستقبل.
الفئات الأكثر تأثرًا
الاضطرابات النفسية منتشرة بين جميع الفئات العمرية والمناطق الجغرافية في لبنان، لكن هناك تفاوتًا في نسبة الإصابة بين الجنسين. تشير الدراسات التي أجرتها جمعية إدراك إلى أن النساء أكثر عرضة للإصابة بهذه الاضطرابات مقارنةً بالرجال. فعلى سبيل المثال، يعاني 49% من النساء من القلق مقارنةً بـ41% من الرجال، و51% من النساء يعانين من الاكتئاب مقارنةً بـ43% من الرجال. كما أن 46% من النساء يعانين من اضطراب ما بعد الصدمة مقارنةً بـ40% من الرجال. هذه الأرقام تعكس التأثير العميق للأزمات المتلاحقة على الصحة النفسية للنساء بشكل خاص.
التحديات في الرعاية الصحية النفسية
من أبرز التحديات التي تواجه نظام الرعاية الصحية النفسية في لبنان هو عدم إعطاء الدولة الأولوية الكافية للصحة النفسية مقارنةً بالرعاية الصحية البدنية. في دراسة أجرتها جمعية إدراك، أشار حوالي 50% من المشاركين إلى أن الدولة تعطي الأولوية للصحة البدنية على حساب الصحة النفسية. هذه الفجوة في الاهتمام ساهمت في ترسيخ مفهوم بأن الصحة النفسية أقل أهمية، مما جعل الكثيرين يترددون في طلب المساعدة. لتحسين هذا الواقع، يجب على الدولة تخصيص موارد أكبر للصحة النفسية، وتوفير برامج توعوية تهدف إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي حول أهمية الصحة النفسية.
الحاجة إلى حملات توعية وطنية
يشدد الدكتور إيلي كرم على أهمية إطلاق حملات توعية وطنية تهدف إلى تثقيف المجتمع حول الصحة النفسية وأعراض الاضطرابات المختلفة، مثل صعوبة النوم، ضعف التركيز، انعدام الطاقة، التهيج، التشاؤم، وفقدان الإنتاجية. هذه الأعراض قد تكون مؤشرًا على الاكتئاب أو القلق، ومن الضروري أن يدرك الأفراد أهمية اللجوء إلى العلاج عند الحاجة. كما يجب العمل على كسر الوصمة المرتبطة بالصحة النفسية من خلال تعزيز الحوار المجتمعي وإشراك المؤسسات التربوية والإعلامية في نشر الوعي حول أهمية الرعاية النفسية.
نحو مستقبل أفضل
مع تزايد الضغوط النفسية على اللبنانيين، يصبح الاهتمام بالصحة النفسية ضرورة ملحة، وليس مجرد رفاهية. يجب أن يكون هناك تكامل بين الجهود الحكومية والمجتمع المدني والمنظمات الصحية لتوفير بيئة آمنة تدعم الصحة النفسية وتعزز من قدرة الأفراد على التكيف مع التحديات. إن إدراك أهمية الصحة النفسية والعمل على تحسينها سيؤدي بلا شك إلى مجتمع أكثر استقرارًا وإنتاجية، وهو ما يحتاجه لبنان في هذه المرحلة الحرجة.