كانت عباراتٍ عامةً موجهةً إلى الخارج أساساً لتهدئة انتقاداته ولرفع عقوباته، تلك التي توجَّه بها البيان الختامي لـ"مؤتمر الحوار الوطني السوري"، الذي جاءت تشكيلته على عجل، لتشير بوضوح إلى طبيعة رؤية الحكّام الجدد في دمشق لمستقبل سوريا في السنوات القليلة المقبلة.

فالمؤتمر الذي جاء في خضم أزمات سورية كبرى ورثها هؤلاء الحكّام عن الحرب الأهلية الماضية التي لم تنته فصولها، هدف أولاً إلى طمأنة الخارج على وضع أسس سوريا الجديدة وانفتاح مَن هم في السلطة على المكوِّنات السورية المختلفة، سياسياً واقتصادياً.

فالموضوع الأهمّ بالنسبة إلى دمشق اليوم هو في رفع العقوبات، عن طريق حفظ وحدة البلد المهدَّدة في كل يوم شرقاً وشمالاً وجنوباً وغرباً. وإذا لم يكن الرفع الفوري، فالتدريجي، أو أقلُّه تجميد بعض العقوبات وليس كلها، لكي تتنفّس الإدارة الجديدة الصعداء.

وإلا فإنها لن تبقى على أرض صلبة ولو اعتمدت على دعم تركي يزعزعه بدوره تهديدٌ اسرائيلي متصاعد وغير منظور، ونفوذٌ أميركي يتقاطع مع نفوذ إسرائيلي، وسط حديث عن توفير غطاء لنفوذ روسي ما لكبح جماح الحكام السلفيين لدمشق.

في كل الأحوال يريد حكّام دمشق الحاليّون فتح باب رفع العقوبات كافة أمام عملية كبرى لإعادة الإعمار تقدر بنحو 300 مليار دولار وسط بنية تحتية مدمَّرة وبيئة شعبية تقع غالبيتها تحت خط الفقر، بينما لا موارد للحكومة ومعظم ثروات سوريا خارج سيطرتها. فنحو 80 في المئة من الثروة النفطية، مثلاً، موجود في مناطق يسيطر عليها الأكراد في شكلٍ أو في آخر في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية. أمّا الدعم العربي فلن يتبلور جديّا خشيةً من الموقف الأميركي المعارض لرفع العقوبات.

لم ينجح المؤتمر في تقديم صورة مشجعة للخارج، سيّما على صعيد إشراك المكوِّنات كافة. فقد تم استبعاد الأكراد أي "قسد"، وتمت الاستعاضة عن ممثلي الطوائف بشخصيات غير ذات ثقل، وحتى لدى السنّة ، فقد لجأ المؤتمر بإيعاز من الرئيس السوري أحمد الشرع، إلى إشراكهم فرادى وليس جماعات، وهو ما ينطبق حتى على تنظيم "الإخوان المسلمين" المفترض انه الراعي لفكر "هيئة تحرير الشام" التي أسسها الشرع والتي ينحدر فكر حكّام تركيا منها. وهذا ما أثار امتعاض الحركة وغيرها من مكوِّنات المعارضة السورية السابقة.

ما حصل في المؤتمر، دفع إلى انتقادات قوى وشخصيات فاعلة، لسياسة "التهميش" التي انتهزها الشرع بحيث انقلب المؤتمر "فولكلوراً"، أدّى مثلا بأيمن الأصفري الذي سمّاه بعض المشاركين لرئاسة الحكومة، وغيره أيضا إلى المغادرة. فعزّز ذلك فكرة أنّ الشرع يستبعد المدنيّين، لصالح الإسلاميين الحقيقيين من جماعته، مع أنّ الأصفري من إدلب وهو رجل اعمال وله علاقات دولية، ومقيم في بريطانيا وشُبِّه كثيرا برفيق الحريري قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة اللبنانية.

كان المؤتمر حاسماً لناحية حصر السلاح بيد الدولة وسط يد رخوة بدأ يشعر بها وتسلط القوى الإقليمية عليه وشبه تفلُّت مناطق كاملة ذات رمزيات طائفية وعرقية من سلطاته. من هنا كان التشديد على الوحدة وإدانة التوغل الإسرائيلي عبر وثيقة رسمية مهمّة والانطلاق منها لطلب مساعدة المجتمع الدولي والمنظمات الاقليمية..

وفي البيان الختامي الكثير من الشعارات الجذابة، منها بناء المؤسسات وإعلان دستوري. وهنا شكّل الشرع لجنة من الخبراء لصياغة مسوَّدة الإعلان الدستوري، ومجلس تشريعي مؤقت (طبعا مُعيّن). وتم التشديد على ترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمي بين جميع المكوِّنات ونبذ العنف. ونبَذ المؤتمر التحريض والانتقام لكنّه لم يتنازل عن العدالة الانتقالية ما يعني المضي في عمليات الاقتصاص من رجال النظام السابق.

كل ذلك جيد، لكنه لن يكون ملزماً للحكومة المقبلة المنوي تشكيلها، مع التذكير بأن المرحلة الانتقالية قد تستغرق سنوات ثلاث بعهدة الحكومة الانتقالية. ووسط كل تلك الإقصاءات، وحيث لا ذكر للديمقراطية، لم يقدّم حكّام دمشق للغرب ما يطالب به.

لذلك تعزّزت الفكرة الأميركية في معارضة رفع العقوبات في مقابل توازن أوروبي يحاول، كما كان دأبه خلال حكم الرئيس السابق بشار الاسد، تليين الموقف الأميركي، بدون جدوى. ولم ينفع استعجال الاتحاد الأوروبي لرفع (حتى جزئي) العقوبات الكبرى التي عانى منها الشعب السوري.

وفي ظل الوضع الحالي فإن قانون قيصر باق ليمنع أي تعافٍ أو إعادة إعمار أو استقرار اقتصادي أو حتى مساعدة عربية جدية، ولو من قبل الأكثر قربا من حكام دمشق، أي قطر، التي كانت تودّ تقديم وديعة لكنها لن تتمكن من ذلك.

ويبدو من توجُّه الشرع أنّ الحكومة المقبلة ورئيسها سيكونان من اختياره، من قاعدته الأساسية السلفية الجهادية التي يجهد لإرضائها وإشغال المواقع والمناصب الأساسية بها، وإحاطة نفسه بولائها، تماما كما فعل أسلافه من بعثيين وغيرهم طوال عقود، تعود إلى بدء زمن الانقلابات السورية مع انقلاب حسني الزعيم العام 1949..

كل هذا يعني أننا أمام مرحلة سلطوية حكومية لن تكون مختلفة عن الحالية، تحت أنظار المجتمع الدولي، الذي لا يهمّه هنا إن كانت حكومة تكنوقراط بلباس مدني أو برداء إسلامي واضح. المهمّ أن تكون ممثِّلة وجديّة في إصلاحاتها، وهذا الأمر متعذر لظروف لا تتعلق بالشرع ومن معه فقط، بل بظروف البلاد نفسها المقبلة على تطورات دقيقة.. وقد تكون خطيرة.