استبشر اللبنانيون خيراً مع ولادة حكومة جديدة يحمل وزراؤها ما يكفي من خبرات وكفاءات لانتشال البلد من أزماته الاقتصادية.

ولكنْ، ألم يكن الوزراء السابقون كذلك؟ نعم، ولكنه عهد جديد!

ألم تكن العهود الماضية في بداياتها، مفعمةً بالآمال؟

نعم، ولكنّ هذا العهد مدعوم دولياً!.

أوَلّمْ نرجُ خيرا من انتخاب برلمان 2022؟

نعم، ومئة نعم..

لم يتغيرْ شيء. فأين هي القطبة المخفية؟

طرح الأسئلة هنا من زاوية أنّ "الضدّ يُظهِر حُسنَه الضدُّ" ولا يهدف إلى بث الإحباط. فحامض المنظومة "الاقتـصاية" ذوّب فيتامين الكفاءات، وأحبِط كلّ محاولات الإصلاح.

حلحلة المشاكل تفرض "معالجات أفقية"

خير مُعَبّر عن حجم المشاكل التي تواجه الاقتصاد، قولُ وزير المالية ياسين جابر في أول تصريح أدلى به إن الحكومة ستعمد إلى حلحلة الملفات "أفقيّا وليس عموديا". بمعنى أن من غير الممكن تبدية ملف على آخر، ويجب البدء فيها دفعة واحدة. ومن هذه المشاكل:

توزيع الخسائر في النظام المالي وإعادة هيكلة المصارف والإعمار وإعادة هيكلة الدين العام والتفاوض مع حمَلة سندات اليوروبوندز والخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي ومعالجة أزمة النازحين السوريين ومعالجة أزمة تعويضات نهاية الخدمة وتطبيق قوانين مكافحة الفساد والخروج من الانكماش الاقتصادي وتحفيز النمو، واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

ويأتي أيضًا مكافحة الفقر والبطالة وإيلاء الملف الاجتماعي الاهتمام، وإنشاء الهيئات الناظمة ولاسيما في الكهرباء والاتصالات والنقل العام والمياه..

تحديات المرحلة كثيرة

كلّ عنوان من هذه العناوين كان في المرحلة السابقة معركة بحدّ ذاته بين ما يجب القيام به، وبين مصالح القوى النافذة والمتداخلة. أدّى ذلك إلى عدم التقدّم قيد أنمله بأي ملف. والسؤال اليوم عمّا إذا كانت تركيبة الحكومة الجديدة تشي بامكانية معالجة الوضع الاقتصادي والأزمة المالية المستفحلة منذ ستّ سنوات، "لا يمكن الإجابة عليه بشكل واضح"، بحسب الصحافي المتخصص في الشأن الاقتصادي جاد غصن, "لأنّ آلية تأليف الحكومة لم تأخذ في الاعتبار التفاوض على الأمور السياسية، وتحديد إمكانية مشاركة القوى الأساسية فيها، أو عدم المشاركة انطلاقا من التوافق على سياسة معينة. فشخص مثل وزير الاقتصاد عامر بساط القادم من صندوق النقد الدولي (1991 – 1998) والمدير العام للأسواق الناشئة والاستثمارات السيادية في Black Rock، وهي من الجهات التي تحمل قسماً كبيراً من سندات اليوروبوندز اللبنانية، يتلاقى في طرحه لمعالجة الأزمة مع وزير المالية ياسين جابر. وهو الذي كان عضوا في اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال والموازنة لتقصي الحقائق، والتي خرجت بارقام متناقضة مع أرقام الحكومة اللبنانية مقدِّرة الخسائر في النظام المالي بـ 73 ألف مليار ليرة، فيما قدَّرتها الحكومة مستندة إلى شركة "لازارد"، بـ 241 ألف مليار ليرة. وهو الأمر الذي رفضه صندوق النقد باعتبار التخفيض وهميّ وعطّل خطة الحكومة آنذاك، وعطّل الاتفاق مع صندوق النقد.

مصير الاتفاق مع صندوق النقد

نجاح الحكومة في وضع خطة تعافٍ اقتصادية، يتوقف برأي غصن على "اللجنة التي ستُكلَّف التفاوض مع صندوق النقد، وما هي موازين القوى في الحكومة عموماً واتجاهات الاعضاء داخل هذه اللجنة". وليس في الأمد القريب من حل، "إلا الانتظار ومراقبة ما إذا كان ثمّة إمكانية لتخطي الضغط الذي مارسته القوى النافذة، وصاحبة المصالح المالية في البلد، التي أسقطت خطة الحكومة عام 2020، المُعَدّة بالتوافق مع صندوق النقد"، يضيف غصن. "وما يثير المخاوف هو أن من الصعب ردمَ هذه التناقضات في وجهات النظر. ودائما ما تعيدنا إلى مجلس النواب المعروف بأنه "فرّامة" أي قانون إصلاحي حقيقي".

في السنوات الماضية تعالت آراء تنادي بفك ارتباط لبنان بصندوق النقد لأنّ "مطالباته ترهق الاقتصاد بمزيد من الأعباء، وتؤدي إلى رحيل الاستثمارات، وتقضي على الثقة بالنظام المصرفي، خصوصا لو شُطِبَت الودائع، مع حماية صغار المودعين فقط. وستؤدي إلى زيادة الضرائب، ومزيد من انهيار الليرة، إذا اتُّخِذ قرار تحرير سعر الصرف. وعليه، فلبنان بغنى عن المليارات الثلاثة التي ستأتي من صندوق النقد مقابل كل هذه الاعباء. هذه الاراء تثير أسئلة أخرى عن مدى قدرة لبنان تنفيذ معالجة مالية بدون اتفاق مع صندوق النقد؟ "الجواب على هذا السؤال يكون من خلال طرح سؤال آخر" يقول غصن وهو: "هل لأحد أن يتصور أنَ بالإمكان معالجة الازمة الاقتصادية بدون الحاجة إلى الاقتراض من أي جهة في المرحلة القادمة؟ إذا كان الجواب نعم، فمن الممكن نقض الاتفاق مع صندوق النقد. أما إذا كان الاقتراض قدَراً، وهذا أمر بديهي في أي دولة لا يوجد لديها أي عائد مالي، فلا بد من التفاهم مع صندوق النقد الدولي كجهة مقرضة أخيرة للدول التي تواجه مثل هذا العجز.

تطبيق القوانين تحدّ من نوع آخر

تحدّي الاتفاق مع صندوق النقد ليس التحدي الأوحد أو الأصعب أو الأهمّ. فهناك تحدٍّ من نوع آخر هو الاتفاق على وضع المراسيم التطبيقية لـ 12 قانوناً إصلاحياً، أُقِرّ أغلبَها مجلس النواب بين 2008 و2023، وتتعلق بمكافحة الفساد واسترداد الاموال المنهوبة ومحاسبة المخالفين"، بحسب دراسة أعدّتها المحامية الدكتورة جوديت التيني. وهذه القوانين هي:

- قانون رقم 33 تاريخ 16/10/2008 يجيز للحكومة الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

- قانون رقم 160 تاريخ 17/8/2011 يحظر الاستغلال الشخصي للمعلومات المميَّزة في التعامل بالأسواق المالية.

- قانون رقم 222 تاريخ 2/4/2012 يوسّع ملاك القضاة ومدقّقي الحسابات في ديوان المحاسبة.

- قانون معجل رقم 44 تاريخ 24/11/2015 لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

- قانون رقم 55 تاريخ 27/10/2016 لتبادل المعلومات لغايات ضريبية.

- قانون رقم 28 تاريخ 10/2/2017 الحق في الوصول الى المعلومات.

- قانون رقم 83 تاريخ 10/10/2018 لحماية كاشفي الفساد.

- قانون رقم 175 تاريخ 8/5/2020 لمكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

- قانون رقم 189 تاريخ 16/10/2020 للتصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الاثراء غير المشروع.

- قانون رقم 200 تاريخ 29/12/2020 لتعليق العمل بأحكام قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 لمدة سنة واحدة. (لغايات التدقيق الجنائي).

- قانون رقم 214 تاريخ 8/4/2021 لاستعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد.

- قانون رقم 306 تاريخ 28/10/2022 لتعديل بعض مواد من القانون الصادر بتاريخ 3/9/1956 المتعلق بسرية المصارف، والمادة 150 من القانون المنفذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ 1/8/1963 وتعديلاته (قانون النقد والتسليف)، والمادة 23 من القانون رقم 44 تاريخ 11/11/2008 وتعديلاته (قانون الإجراءات الضريبية)، والمادة 103 من المرسوم الاشتراعي رقم 144 تاريخ 12/6/1959 وتعديلاته (قانون ضريبة الدخل).

هذه القوانين تصدّت لها الطبقة الاقتصادية، بحسب التيني، لأنها "كرست المحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة، فب أي شكل كان، في الخارج أو في الداخل، وتكمن آهميّتها في أنها قوانين متجانسة. والأهم أنها تنفي السرية المصرفية والحصانات والامتيازات في جرائم الفساد وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع التي تكافحها وتحاسب عليها"..

إزاء هذا الواقع المعقد والمتداخل لا يسعنا إلا الاستعانة بأكثر الأمثال تردادا على لسان رئيس مجلس النواب نبيه بري في المسائل الفاصلة: "ما فينا نقول فول غير ليصير بالمكيول".