شكل "التعافي الاقتصادي" الشغل الشاغل للمسؤولين والنخب الاقتصادية والمالية اللبنانية على مدار السنوات الخمس الماضية. إلا أن هذا النشاط المُفرط، والذي يمكن ترجمته بآلاف المقالات والخطط والأوراق البحثية والندوات والمقابلات الإعلامية، بقي حبراً على ورق؛ إن لم نقل "حركة بلا بركة". حيث سيطر على فضاءات الحلول، اقتراحان متوازيان.
الاول، مدعوم من صندوق النقد الدولي، قائم على جوهر النظام الرأسمال، ومدعم بتجارب الدول في معالجة الازمات، يعيد سبب الانهيار إلى الفساد، والتواطوء بين المصارف ومصرف لبنان. وبالتالي لا يمكن بالمنطق تحميل المودع أي خسارة قبل تصفير رأسمال المصرف. ومن بعدها توزع الخسائر المقدرة حديثاً، بحوالي 76 مليار دولار على أساس تراتبية المسؤوليات، وتتدرج نزولاً من المصارف، المصرف المركزي، الدولة، المودعين.
الثاني، يقول إن الأزمة نظامية نتجت عن إقراض مصرف لبنان أموال المودعين الموظفه لديه من قبل المصارف، إكراهاً، للدولة. وعليه فان الحل بتحمل الدولة المسؤولية من خلال إعادة الاموال. وبما أن الاموال هدرت على الطاقة والدعم والسلف والاشغال والاستيراد، وتثبيت سعر الصرف.. فان الحل يكمن ببيع الأصول العامة والتعويص على المصارف، وبالتالي يصل المودعين حقهم.. و"يا دار ما دخلك شر".
فشل خطط التعافي في الخروج من الانهيار
الحلان لم، ولن، يلتقيا. والدليل فشل الخطط الحكومية، الأقرب للطرح الثاني، طوال السنوات الماضية، وخسارة المودعين نصف كمية ودائعهم التي انخفضت من حدو من 170 مليار دولار في العام 2019، إلى حدود 86 مليار دولار في نهاية 2024، و"الحبل على الجرار". إزاء هذا الواقع المعقد، رأى تقرير جديد لـ "نادي القادة" من قبل Lebanon Opportunities)) أن الحل يكمن في "التحول من النهج الموجه نحو التصفية، إلى استراتيجيات تركز على النمو المستدام". فكل الخطط السابقة ركزت جهودها بشكل ضيق على القطاع المالي ونقص الإصلاحات الشاملة، وأهملت الدور الذي يمكن ان تلعبه "الثقة العامة، والمشاركة الشاملة لأصحاب المصلحة". وقد "أدت هذه الخطط بشكل غير مقصود إلى تفاقم التحديات الاقتصادية: حيث أدى التخلف عن السداد إلى انخفاض السيولة، واستنفاد الدعم لاحتياطيات النقد الأجنبي، وعززت الضوابط الاستنسابية التي وضعت على رأس المال أنشطة السوق السوداء. مما يؤكد الحاجة إلى تحول جذري في الأولويات والمنهجيات.
تعزيز دور القطاع المصرفي
بدلاً من البدء بتقدير الخسائر المالية، وهو ما يمثل عقلية تصفية، تقوم الخطة التي يقترحها نادي القادة على استراتيجيات موجهة نحو المستقبل، وإعطاء الأولوية لخلق فرص العمل، وزيادة الأجور، وموازنة إيرادات الدولة ونفقاتها. وتهدف الخطة إلى بدء التحفيز الاقتصادي الفوري وضمان الاستدامة طويلة الأجل. وتدعو إلى إنشاء ميثاق اجتماعي اقتصادي جديد يهدف إلى خلق سياسات متوازنة فيما يتعلق بأجور القطاع العام، والحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، والحماية الاجتماعية، والضرائب. ويشمل هذا الميثاق خطة إنقاذ وإعادة تمويل لصندوق الضمان الاجتماعي الوطني، وهو أمر بالغ الأهمية لتوفير شبكات الأمان الاجتماعي.
تقترح الخطة أيضاً تحرير سعر الصرف، الأمر الذي من شأنه أن يلغي حاجة البنك المركزي إلى الاحتفاظ باحتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي (مقدرة بحسب لآخر الأرقام بـ 10 مليار و390 مليون دولار) واستعمال الاحتياطات الكبيرة (تقدر بنحو 35 مليار دولار: 25 مليار دولار من الذهب وأكثر من 10.39 مليارات دولار من احتياطيات العملات الأجنبية) لدعم النمو الاقتصادي في المستقبل بدلاً من تغطية الخسائر الماضية. وتدعو الخطة على الصعيد المصرفي أيضا إلى "فصل الاموال الجديدة في المصارف (مقدرة بأكثر من 5 مليارات دولار) عن الإلتزامات غير المعالجة قبل 2019 وحمايتها. ما يسمح باعادة تفعيل دور المصارف إيداعاً وإقراضاً من الاموال الجديدة. وبالتالي استعادة الثقة في القطاع المصرفي، وتشجيع الاستثمارات الجديدة، وتسهيل التعافي الاقتصادي الجديد".
الخصخصة طريق للخلاص؟
بالإضافة إلى الإصلاحات المالية، تدعو الخطة إلى "خصخصة المرافق العامة مثل الكهرباء والاتصالات. وتوجيه الإيرادات المتولدة إلى الصناديق العامة، لدعم مبادرات التخفيف من حدة الفقر. ومن شأن صندوق التخفيف من حدة الفقر، الممول من موارد الدولة وإيرادات شركة قابضة سيادية والجهات المانحة الدولية، أن يحل محل الإعانات غير الفعالة بدعم مباشر للفئات السكانية الضعيفة، مما يضمن شبكة أمان اجتماعي أكثر استهدافًا وفعالية".
الإصلاح في المالية العامة
يطالب التقرير تنفيذ إصلاحات السياسة المالية على مراحل، مع التركيز في البداية على الأهداف القابلة للتحقيق. ويشمل ذلك:
الإلغاء المؤقت للضرائب المباشرة لمعظم القطاعات، باستثناء القطاع المالي والتأمين والشركات القابضة الكبرى، مع زيادة الضرائب غير المباشرة إلى مستويات مستدامة. ويسمح هذا النهج التدريجي بالاستقرار الاقتصادي ويهيئ المسرح لإصلاحات شاملة للنظام الضريبي في المستقبل. وبحسب "نادي القادة"، تم تحديد التدابير لتحفيز نمو القطاع الخاص، مع أكثر من 250 مبادرة تهدف إلى إزالة الحواجز وتحفيز التنمية عبر مختلف القطاعات. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد النادي على أهمية تسريع استكشاف النفط والغاز في المناطق البحرية غير المثيرة للجدل لتعزيز آفاق لبنان الاقتصادية وتحسين مستوى المخاطر.
الثقة أولاً
الخروج من حالة المراوحة يتطلب "استعادة الثقة أولاً"، بحسب الخبير الاقتصادي والمصرفي نيكولا شيخاني. والقيام بمجموعة من الاجراءات الآنية السريعة تناولها بالتفصيل اقتراح قانون لرئيس لجنة الاقتصاد النيابية النائب فريد البستاني: يقوم الاقتراح على أمرين أساسيين:
استعادة الانتظام المالي.
ورد الثقة.
وهذان الأمران لا يمكن تحقيقهما بحسب شيخاني إلا من خلال:
حماية الودائع. خصوصا ان الوديعة تعتبر ركيزة المستثمر. وإبعادها عن الاقتطاعات الجائرة (Hair cut) كما تنص الخطط الحكومية. ذلك أن هذه الطروحات تبعد المستثمرين وتجعلهم يخشون توظيف أموالهم في لبنان لامكانية تعرضها للمصادرة أو الاقتطاع عند أي خضة أو انهيار. ويشدد اقتراح القانون على ضرورة احترام المادة 15 من الدستور التي تنص صراحة على أن "الملكية (وفي هذه الحالة الوديعة) في حمى القانون. فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكية إلا لأسباب المنفعة العامة، وفي الاحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه عنه تعويضا عادلاً".
استعادة الانتظام المالي، عبر العودة إلى تطبيق المعايير الاقتصادية والمالية والمصرفية العالمية، منها (بازل 3) مثلا التي تتطلب تطبيق معايير خاصة جرى إهمالها طوال السنوت الماضية. ويركز اقتراح القانون في موادة الثالثة والرابعة والخامسة على رد الدولة الدين إلى مصرف لبنان، واعادة رسملة المركزي. ويتوجب على الاخير إنشاء وعاء (صندوق) توضع فيه الأرباح لمدة 6 سنوات ويستفيد من أصوله لزيادة موارده والمساهمة في التعافي الاقتصادي. كما يتوجب على المصارف إعادة رسملة نفسها، وتكوين السيولة تدريجياً ما يساهم في رد الودائع واستعادة النشاط الاقتصادي، سواء أعيد توظيف الودائع في المصارف، أو ساتخدمت في الاستهلاك والاستثمار.
بين آب 2023 وتشرين الاول 2024، أي في غضون عام وشهرين استطاع المركزي نتيجة زيادة احتياطيتها بالعملات الاجنبية بقيمة مليار و800 مليون دولار، نتيجة التوقف عن طباعة الليرات وققف تمويل الدولة بالعملة الوطنية والدولار، وفرض سياسة انكماشية على الدولة للحد من الانفاق. صحيح أن المبلغ قليل ويتطلب 49 عاما لجمع 76 مليار دولار وردم الفجوة المصرفية. إلا أن هذا يبقى دليل على أن اعتماد السياسات المناسبة لجهة القطاع العام والنقد وتحفيز الاقتصاد وزيادة النمو كفيلة بزيادة الايرادات وتحقيق المنفعة للجميع في سنوات قليلة.