انتظر اللبنانييون والجهات الدولية "ملياً" إبصار موازنة 2025 النور ضمن المواعيد الدستورية. الهمّ الداخلي تركز على إمكانية "فرد" الخزينة "كفها"، وزيادة الإنفاق على الأجور، وتحسين التقديمات الاجتماعية، مقابل عدم زيادة الرسوم والضرائب. أمّا الهمّ الخارجي فانحصر بعودة الانتظام المالي، وإقرار موازنة متوازنة لا تتضمن عجزاً مالياً. الأملان خابا، فالموازنة لم يتم درسها وتعديلها مع المستجدات في لجنة المال والموازنة في البرلمان، كما يفترض، بما يضمن التخفيف من حدة الضرائب وتحسين التقديمات. ووزارة المالية تضغط لإقرارها بمرسوم استناداً إلى المادة 86 من الدستور، تجنبا إلى عودة الصرف على القاعدة الاثني عشرية، رغم ما قد تحمله من عجز ضخم.
حتى عشية 4 تشرين الأول 2024، تاريخ توقيع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مرسوم إحالة مشروع قانون موازنة العام 2025 على مجلس النواب، ظلت الموازنة بأرقامها إلاشكالية كـ "الموس" العالق في الفم، "إذا بُلع جرَح المريء، وإذا لُفظ جرَح الشفاه". فالحرب التي بدأت بالتوسع قبل نحو أسبوع من الإحالة، وتحديداً في 23 أيلول، لم تكن قد خرجت من عقالها بعد، وعاثت خراباً بالنشاط الاقتصادي وعمل المؤسسات. وكانت الآمال معقودة على لجنة المال والموازنة النيابية لـ"دوزنة" بعض الأرقام والتخفيف من حدتها. خصوصاً لجهة التخفيف من الضرائب والرسوم، التي قدّر أن تزيد بحوالي 1.5 مليار دولار عما كانت عليه في العام 2024. فقد ارتفعت أرقام الإيرادات من حدود 295 ألف مليار ليرة في العام 2024، إلى حدود 428 ألف مليار في موازنة 2025. كما أن الاوضاع أصبحت تتطلب زيادة الإنفاق على الخدمات والإستشفاء والبنى التحتية والمساعدات، وهو ما لا قدرة للجنة المال على زيادتها. ولذلك توسعت مروحة المطالبة، ولاسيما من رئيس وأعضاء لجنة المال والموازنة، والهيئات الاقتصادية، لاستعادة الحكومة مشروع الموازنة وتعديله ومن ثم ارساله من جديد إلى المجلس النيابي لدرسه وإقراره.
الإقرار بمرسوم
هذه المطالبات قابلها حضُّ وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل على إقرار مشروع موازنة 2025 بمرسوم، استنادا إلى المادة 86 من الدستور التي تنص على أنه "إذا لم يبت مجلس النواب نهائيا في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعين لدرسه (العقد الثاني العادي)، فرئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة يدعو المجلس فوراً لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة. واذا انقضى العقد الاستثنائي هذا ولم يبت نهائياً في مشروع الموازنة، فلمجلس الوزراء أن يتخذ قراراً، يصدر بناء عليه عن رئيس الجمهورية، مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به الى المجلس مرعيا ومعمولاً به". ولا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق "إلا اذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الاقل". وهذا الشرط متوفر في إحالة موازنة 2025.
تعتبر أرقام موازنة 2025 إشكالية، خصوصاً لجهة الايرادات. فهي تخصص 50 في المئة منها للرواتب والاجور بما يشكل 8.6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، مقارنة بـ 4 في المئة فقط في موازنة 2023. وتفرد لبند احتياطي الموازنة 624 مليون دولار، منها 100 مليون دولار للفيول العراقي. وتخصص 29 في المئة من الاعتمادات للتربية، والصحة والشؤون الاجتماعية، بقيمة تصل إلى 1.4 مليار دولار. وبغض النظر عن كل هذه الأرقام فقد "تم تعطيل دور مجلس النواب ولجنة المال والموازنة في سابقة خطيرة في دراسة مشروع الموازنة"، بحسب عضو لجنة المال والموازنة النيابية الدكتورة غادة أيوب، اذ :
- لم يُبلَّغ أعضاءُ اللجان النيابية مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2025 فور وروده إلى مجلس النواب كما تنص المادة 43 من النظام الداخلي لمجلس النواب، أي لم يُوزَّع على النواب .
- لم يُدعَ أعضاءُ لجنة المال والموازنة إلى جلسة لمناقشة موقف اللجنة من الموضوع .
- تمّ تغييب وتعطيل دور مجلس النواب الرقابي الذي كفله الدستور اللبناني بقرار فردي.
- لم تُراع أَصول رد الموازنة العامة، ولم يطلب المجلس النيابي استردادها.
وترى أيوب في حديث خاص لـ "الصفا نيوز"، أن "إصدار موازنة 2025 بنفقاتها الحالية أي نحو 5 مليار دولار سوف يؤدي إلى عجز لا يمكن تغطيته عبر الواردات المقدَّرة، لانها تضاءلت بفعل الحرب، ولم تعد صحيحة. وهذا يؤدي إلى حتمية اللجوء إلى مصرف لبنان لتغطية الفرق من الحساب 36 أو من احتياطي المصرف". أما إذا تقرر الإبقاء على الاثني عشرية في الصرف فـ"نكون أمام سقف إنفاق محدد بحو 3.6 مليار دولار، لا يكفي لدفع رواتب ومستحقات الموظفين وغيرها من الأمور الضرورية في الموازنة"، تضيف أيوب. "فيتم اللجوء إلى سلفات خزينة والصرف خارج إطار الإثني العشرية. وهكذا نستعيد المشهد نفسه الذي حصل في 2006، حين انقضى 12 عاما بدون إقرار موازنة حتى 2017 بحجج مختلفة". وعليه كن الأجدى بمجلس النواب من وجهة نظر أيوب أن "يجتمع لإبداء الرأي بالموضوع، وعدم الاعتماد فقط على مطالبات فردية غير رسمية بان تقوم الحكومة باسترداد مشروع الموازنة".
إيرادات 2024 لا يعول عليها
وزارة المالية بيّنت وفي أكثر من مناسبة اعتمادها على تحصيل الخزينة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2024 ما يقارب 82 في المئة من الإيرادات المتوقعة سابقاً في موازنة 2024. وبناء على وتيرة التحصيلات هذه، يُتوقع أن تحقق الإيرادات مع نهاية 2024 حوالي 23 في المئة زيادة عما كان مرتقباً في موازنة 2024 ، أي ما يوازي 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن هذه الأرقام المتفائلة والتي رفعت الإيرادات في نهاية 2024 إلى حوالي 3.6 مليار دولار، "لا تعبّر عن حقيقة الوضع الاقتصادي أو حتى إمكانية استمرار الاقتصاد بشقية: قطاع الاعمال والافراد، بتوفير الإيرادات للدولة"، بحسب خبير المحاسبة المجاز، والعضو في "جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد"، جوزيف متّى. "ذلك أن الشركات في العام 2024 عمدت على تسديد المتوجبات المالية المتأخرة عليها من ضرائب ورسوم عن العام نفسه والاعوام السابقة، مستفيدة من قرارات وزارة المالية تخفيض الغرامات عن المتأخرات. وهو ما أدى إلى زيادة في الإيرادات العام الماضي".
لإلغاء موازنة 2025 كلياً
"الإنفاق على إعادة الاعمار، وهو البند الأكبر والأكثر كلفة، لا يمكن أن يتمّ من ضمن الموازنة العامة، حتى بعد تعديلها"، يؤكد متّى. "ويتوجب فصلهما من خلال انشاء صندوق مستقل، لتلقي الاموال ولجنة موثوقة لإدارة المساعدات. وذلك على غرار بعثة IRFED لبنان التي ساهمت في العام 1964 أيام الرئيس فؤاد شهاب، بالتخطيط التنموي من خلال الدراسات والمسوحات واستطلاعات الرأي وفق البرامج الأكاديمية". أمّا في ما خص مشروت موازنة 2025 فمن "اللياقة العلمية والعملية، إن لم نقل الواجب، سحبه من الحكومة، وإخراجه من التداول كلياً، لأنه لم يعد يصلح، حتى ولو عدّلته الحكومة. ذلك أن المستجدات التي حصلت منذ إعداده ولغاية اليوم اختلفت بشكل جذري. وبالتالي لم يعد إقراره يؤدي الغرض منه. وعلى الحكومة العتيدة الإنصرف إلى إعداد موازنة 2026، وإلحاق البنود المهمة في موازنة 2025 بها. وذلك على غرار ما حصل مع موازنة 2024 التي تضمنت بعض المواد والبنود من موازنة 2023 التي لم تقر.
إضافة إلى كل ما تقدم، من المستبعد أن يقبل رئيس الجمهورية جوزاف عون أن يبدأ عهده بموازنة مشوّهة لا تراعي أبسط الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلد. ومن المرجَّح أن يتم تجاوزها، مع ما قد يحمله هذه الأمر من مخاطر على الإنفاق من السلف والاستدانة، وعدم رضى الجهات الدولية الداعمة التي تشدد على ضرورة انتظام المالية العامة. وفي جميع الاحوال يبدو أنه مكتوب على لبنان الانتقال دوماً من "تحت دلفة" القرارات المالية المشوهة إلى تحت "مزراب" عدم إقرار الموازنات بالأساس.