يواجه القطاع الزراعي في لبنان أزمة خانقة تهدد معيشة آلاف الأسر التي تعتمد عليه. بعد سنوات من معاناة المزارعين بسبب الحرب الإسرائيلية والأضرار التي لحقت بالمزروعات والبنى التحتية، ظهرت تحديات جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد ووصول إدارة جديدة إلى الحكم في سوريا. هذه التطورات السياسية ألقت بظلالها على العلاقات التجارية بين البلدين، لتضع المزارعين اللبنانيين أمام واقع مختلف تمامًا.
التضييق السوري وتأثيره على القطاع الزراعي
لطالما اعتمد المزارعون اللبنانيون على سوريا والأردن كمنافذ رئيسية لتصدير منتجاتهم. لكن الإجراءات الجديدة التي فرضتها الإدارة السورية باتت تشكل عائقًا كبيرًا أمام تدفق البضائع اللبنانية. تخضع الشاحنات اللبنانية إلى تفتيش مطول قد يستغرق بين 5 إلى 6 ساعات، مما يزيد من تكاليف النقل ويعرقل تصدير المنتجات. هذه الإجراءات، التي يرى البعض أنها تحمل رسائل سياسية، تضع المزارع اللبناني تحت ضغط إضافي في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان.
الأضرار الإسرائيلية وآثارها المستمرة
على مقلب آخر، لا تزال الأضرار التي ألحقها الاحتلال الإسرائيلي بالمزارعين تلقي بثقلها على القطاع الزراعي. استهداف أنظمة الطاقة الشمسية، التي يعتمد عليها المزارعون لري أراضيهم، تسبب بخسائر كبيرة. ووفقًا لبعض المزارعين، فإن كلفة إصلاح الأنظمة الشمسية تتجاوز 7,000 دولار لكل نظام. عدم القدرة على تغطية هذه التكاليف أدى إلى تقليص الإنتاج الزراعي وتراجع استمرارية العمل في هذا القطاع الحيوي.
يشير تقرير البنك الدولي الأخير حول أضرار الحرب إلى أنّ النشاط الزراعي كان يمثّل 80% من الأنشطة الاقتصاديّة في بعض هذه المناطق، بينما احتوت محافظة الجنوب وحدها على 64% من أشجار الحمضيّات في البلاد و94% من مزارع الموز، بالإضافة إلى 44% من أشجار الفاكهة الاستوائيّة. أمّا سهل البقاع، فضمّ 70% من إنتاج العنب في البلاد، الذي دخل تاريخيًا في صناعة النبيذ اللبناني.
الجانب الأوّل من الأضرار التي تعرّضت لها هذه المناطق يتعلّق قبل كل شيء بالدمار المادّي، الذي طال الأراضي الزراعيّة. بحسب أرقام "الإسكوا" لغاية 12 أيلول 2024، أي حتّى ما قبل توسّع الحرب، كان القصف الإسرائيلي قد أدّى إلى حرق 1.88 ألف هكتار من الأراضي الزراعيّة، وهو ما شمل 47 ألف شجرة زيتون و93 بيتًا بلاستيكيًا، وما يقارب الـ 600 متر مربّع من مخازن الأعلاف. وفي الفترة التي تلت توسّع الحرب، وتحديدًا بين 23 أيلول والأول من تشرين الثاني 2024، قدّرت منظّمة الزراعة والتغذية للأمم المتّحدة (الفاو) حصول 336 ضربة جويّة استهدفت مرافق زراعيّة، من بينها 74 ضربة طالت أراضٍ مرويّة.
في نتيجة كل هذه الأحداث، قدّر البنك الدولي قيمة الخسائر الماديّة الناتجة عن الاستهدافات الإسرائيليّة بأكثر من 124 مليون دولار أميركي، يُضاف إليها 1.1 مليار دولار أميركي من الخسائر الاقتصاديّة الناتجة عن احتراق المحاصيل وتوقّف عجلة الانتاج وعدم قدرة المزارعين على بيع محاصيلهم أو حصادها. في المناطق الزراعيّة المحاذية للحدود وحدها، بلغت قيمة هذه الأضرار الاقتصاديّة أكثر من 601 مليون دولار أميركي، وهي تحديدًا الأراضي التي مازالت تتعرّض حتّى اللحظة لأعمال التجريف والحرق، من دون أن يتمكّن المزارعون من إعادة استصلاحها. كما وجد البنك الدولي خسائر مركّزة في قطاعات فرعيّة معيّنة، مثل زراعة الموز، التي عانت من أضرار اقتصاديّة بقيمة 353 مليون دولار أميركي.
الازدواجية في المعاملة على الحدود
يعبر العاملون في القطاع الزراعي عن استيائهم من التباين الكبير بين الإجراءات المتبعة على الحدود اللبنانية والسورية. ففي حين تسهّل السلطات اللبنانية دخول الشاحنات السورية، تواجه الشاحنات اللبنانية قيودًا صارمة. هذه المعاملة غير المتكافئة تؤثر بشكل مباشر على تصريف المنتجات الزراعية اللبنانية، ما يفاقم من الأزمة التي يعيشها القطاع.
أهمية تعزيز العلاقات العربية
في ظل هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى إعادة بناء جسور الثقة مع الدول الخليجية، التي تمثل سوقًا أساسية للمنتجات الزراعية اللبنانية. يعتبر فتح طريق "ترانزيت" من الأردن إلى دول الخليج خطوة ضرورية لتسهيل تصدير المنتجات وإعادة تنشيط القطاع. كما يؤكد المعنيون أهمية ضبط المعابر الحدودية للقضاء على ظاهرة التهريب، التي تستنزف الاقتصاد اللبناني وتؤثر سلبًا على تصريف الإنتاج المحلي.
وهنا نذكّر بأنّه منذ ربيع العام 2021، كان القطاع الزراعي اللبناني يعاني من انقطاع طرق التصدير البرّي باتجاه دول الخليج العربي، بعد أن قرّرت المملكة العربيّة السعوديّة حظر دخول السلع الزراعيّة اللبنانيّة إلى أراضيها، "لحين تقديم السلطات اللبنانية المعنية ضمانات كافية وموثوقة لاتخاذهم الإجراءات اللازمة لإيقاف عمليات تهريب المخدرات". ومنذ ذلك الوقت، بات على المزارعين اللجوء إلى طرق التصدير البحري، الأعلى كلفة، للتمكّن من تصدير سلعهم نحو أسواق دول الخليج الأخرى. وبحلول الربع الأخير من العام 2023، شهدت عمليّات الشحن البحري نفسها ارتفاعات كبيرة في كلفتها، بفعل اضطرابات البحر الأحمر، التي فرضت على شركات الشحن البحري المرور بطرق بديلة وطويلة.
الحلول المقترحة
للتخفيف من الأزمات المتلاحقة التي يواجهها القطاع الزراعي، يمكن اتخاذ خطوات عدة، منها:
1. التفاوض مع الإدارة السورية: للوصول إلى اتفاقيات تخفف من القيود المفروضة على الشاحنات اللبنانية.
2. إصلاح البنية التحتية الزراعية: بدعم المزارعين لإصلاح أنظمة الطاقة الشمسية وتحديث أساليب الري.
3. تعزيز العلاقات مع الدول الخليجية: لضمان استعادة الأسواق التي أُغلقت في وجه المزارعين اللبنانيين.
4. ضبط المعابر الحدودية: للحد من التهريب وتسهيل تصدير البضائع بطريقة قانونية ومنظمة.
في الختام، يشكل القطاع الزراعي شريان حياة لكثير من الأسر اللبنانية، إلا أن الأزمات المتلاحقة تهدد بتدميره. من الضروري أن تتحرك الحكومة اللبنانية بسرعة لمعالجة التحديات الداخلية والخارجية، بدءًا من إعادة بناء العلاقات التجارية مع سوريا ودول الجوار، وصولًا إلى تعزيز البنية التحتية الزراعية وضبط الحدود. فبدون هذه الخطوات، سيبقى المزارعون اللبنانيون عالقين في دوامة من الأزمات التي تهدد أمنهم الاقتصادي والاجتماعي.