في غمرة التشدّد بل التوتر السياسي الذي أبداه الممثّلان الرسميان للطائفة اللبنانية الشيعية، "حزب الله" و"حركة أمل"، على خلفية تسمية القاضي الدولي نوّاف سلام لتشكيل الحكومة وانتخاب العماد جوزاف عون لرئاسة الجمهورية، لا بدّ من عرض المشهد بسلبياته وإيجابياته، والبحث عن وسائل تفكيك العُقد التي دهمت العهد الجديد في بدايته.

أوّلاً، أعلن "حزب الله" من قصر بعبدا، وبلسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد، عن مؤامرة لـ "إقصاء" الطائفة، وعن "كمين" نُصب لها، وعن "قطع" يدها التي مدّتها بانتخاب الرئيس، والانقلاب على الاتفاق الذي سبق ذلك.

في الواقع، إن الكلام على "اتفاق" مسبَق يحتاج إلى إثبات ودلائل، ما إذا كان شفوياً أو خطّياً، ومن هو الطرف الآخر الذي تمّ الاتفاق معه، لبنانياً كان أو خارجياً أم الإثنين معاً، ومقدار صدقية النقاط أو البنود ومدى التزامها، سواء في مسألة الوعد بتسمية الرئيس نجيب ميقاتي، أو بوعود أخرى عن السلاح والإعمار والتعيينات والحقائب.

فلا يجوز في اتفاقات سياسية ذات طابع وطني من هذا النوع، وفي مسألة محورية كانتخاب رئيس جمهورية وتسمية رئيس حكومة وتدشين مرحلة جديدة، تمرير صفقات أو تسويات سرّية على الطريقة المخابراتية، وفي معزل عن سائر المكوّنات والقوى المعنيّة.

وهنا إشارة إلى القول المتكرر عن ضغوط أميركية وسعودية على النواب لانتخاب رئيس وتسمية آخر، إذ يتساوى "الثنائي" في هذا المجال مع الآخرين، برضوخه ولو بعد تمنّع، لهذه الضغوط في حال حصولها، وانتخابه قائد الجيش جوزاف عون رئيساً، بشروط يقول إنه وضعها للقبول.

ثانياً، يجدر التوقف عند موقف لافت ومتقدّم من المرجعية الدينية العليا للطائفة الشيعية، ومن قصر بعبدا أيضاً. فقد أعلن نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ العلّامة علي الخطيب أن "السلاح ليس مقدّساً" و"لن يكون لدينا مشروع سياسي خاص بل نحن وسائر اللبنانيين في حاجة للأمان والاستقرار"، خلافاً للأدبيات المزمنة لـ "حزب الله" عن تقديس سلاحه سواء في المواقف والتصريحات أو في النصوص المكتوبة ومنها "ورقة التفاهم" مع الرئيس السابق ميشال عون (6 شباط 2006) في بندها العاشر الذي يصف هذا السلاح بـ "الوسيلة الشريفة المقدّسة". والمثير أن الرد على قوله بـ "عدم قدسيّة السلاح" جاء من موقع شيعي ديني آخر هو المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان بقوله "لا شيء أكثر قدسيّة من السلاح"!

إن أهمّية إعلان الشيخ الخطيب تكمن في الربط مع التراث التاريخي للطائفة، وتحديداً مع النهج الوطني للإمامَين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين، في الخطاب السياسي للأول، وفي كتاب "الوصايا" للثاني، بما يتعارض مع النهج الذي اعتمده "الحزب" في التزام "وحدة الساحات" ضمن مشروع سياسي أوسع من لبنان بقيادة إيران.

ثالثاً، لم تسجّل مراصد المراقبة السياسية نيّات فعلية أو توجّهاً واضحاً نحو عزل "الثنائي الشيعي"، لا عند معارضيه وخصومه في السياسة، ولا عند رمزَي الحكم الجديد الرئيس جوزاف عون والرئيس نوّاف سلام، بل يكرر الجميع التزام الشراكة الوطنية ضمن التكافؤ والتماثل وليس تحت منطق الغلبة الذي ساد سابقاً.

وقد يكون الإحساس بالعزل جاء نتيجة انتهاء هذا المنطق، وهو أمر طبيعي يدركه كل قوي أصابه شيء من الوهن أو الضمور.

ولعلّ مقاطعة "الثنائي" للاستشارات النيابية غير المُلزمة التي يجريها رئيس الحكومة المكلّف هي ردّة فعل نفسية للتعبير عن امتعاض أو استنكار أكثر ممّا هي سياسية ذات بعد انكفائي وتعطيلي.

رابعاً، لا يمكن أن تتحوّل الميثاقية إلى حالة إستنسابية تصحّ في مجال ولا تصحّ في آخر، فهي في أساسها الوطني بين المكوّنَين الكبيرَين المسلمِين والمسيحيين وليست بين مذاهبهما، وفي عمقها هي بين الناس وليست بين السياسيين والأحزاب الذين يصبحون ممثّلين لإرادة الناس بالانتخابات. وفي الحالة الراهنة تكون الميثاقية في تأليف الحكومة بالتمثيل العادل والمتوازن للطوائف، وليست في ديمقراطية تسمية رئيسها.

خامساً، في خلفية الأزمة الراهنة يكمن الإخلال بكيانية لبنان القائم في جوهره على التنوّع. هذا التنوع كان دائما على مستويَين: من فوق بين الطوائف ومن تحت داخل كل طائفة. إلى أن أصبحت طائفة واحدة هي الطائفة الشيعية مقفلة في داخلها، إذ أقفلت تمثيلها (٢٧ نائباّ) على "الحزب" و"أمل"، بينما تنوَّعَ تمثيل الطوائف الأخرى، السنّية والدرزية والمسيحية، بنسب متفاوتة ولكن حيويّة وبنّاءة. حتى أن أصغرها عدداً، وهي الطائفة العلوية، تشهد تنوّعاً بين نائبَيها في طرابلس وعكّار، فيصوّتان كلّ واحد منهما في اتجاه!

ومن المنطقي أن تتم معالجة هذا الخلل بفتح الطائفة الشيعية على التنوّع أسوةً بالأُخريات علماً أن فيها طاقات وشخصيات وقادة رأي وقواعد غير ممثّلة ، لأن العكس، أي إقفال الطوائف الأُخرى على غرار الشيعة يؤدّي إلى أجسام صلبة تشكّل خطراً كبيراً في حال تصادمها، بينما التنوّع داخل الطوائف يمتصّ الخلافات ويمنع الصدامات الكبرى ويشكّل صمّام أمان أهلي ووطني.

إن المرحلة الجديدة التي أطلقها خطابا القسم والتكليف تتطلّب تغييراً في السلوك الوطني وفي الخطاب السياسي يواكبها إيجاباً، بعد التخلّي عن مفاهيم وأساليب ثبُت عقمها، وكان أخطرها الاستيلاء على قرار الدولة واعتماد الفوقية ونهج المحاصصة والفساد.

إن ورشة بناء الدولة تقوم على العمل المشترك لا على التفرّد والعزل. وهذا ما يريده ويلتزمه رئيس البلاد ورئيس الحكومة المكلّف والقوى السياسية والرأي العام، ولا ضرورة لبقاء لغة الحرب من "كمائن" و"تربّص" و"قطع"، ولا للأعصاب المشدودة. فبين العزل والعزلة فرق كبير، ولا وجوب للوقوع في العزلة بحجّة العزل.