يمكن القول إنها خسارة او نكسة للمحور الذي انتهى كبنيان مرصوص واتصال جغرافي أمني، ولو لم يهزم عسكريا في البر بعد صمود المقاومة في لبنان وغزة. لكنّ إسرائيل دمرت قدرات المحور وقتلت قياداته وعشرات آلاف المدنيين ودمّرت واحتلت ليس فقط في غزة، بل إنها توسعت في سوريا ودمّرت ما تبقى من الجيش السوري

مهما كانت نتيجة المفاوضات غير المباشرة لإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، برعاية عربية واشراف اميركي، وطبيعة الاتفاق وصيغته، فإن ما بعد تلك الحرب المستمرة منذ اكثر من 15 شهرا لن يكون كما قبلها على صعيد القضية الفلسطينية.

والواقع ان هذه القضية تمر اليوم بانعطافة كبرى كان اليمين الإسرائيلي يتحضر لها منذ زمن حتى تمكّنت اليوم أكثر الحكومات الاسرائيلية تطرفا في تاريخ الدولة العبرية، من الشروع في مخططها القديم بتصفية هذه القضية نهائيا.

والحال ان العد التنازلي الدراماتيكي لهذا الواقع ما كان له أن ينجح لولا سوءُ تقدير حركة "حماس" والمحور الإيراني الحاضن لها، بعد أن شنّت الحركة، في السابع من تشرين الأول اكتوبر 2023 عملية "طوفان الأقصى" التي لم تصدّق هي نفسها نتائجها المذهلة.

اعتقدت "حماس" ان الأمر سيكون شبيها بعملية إجبار الإسرائيليين على عمليية الإطلاق الماضية للمحتجز جلعاد شاليط في مقابل أكثر من ألف أسير في السجون الإسرائيلية، التي شكلت نجاحا للحركة. وتعززت قناعة قادتها مع الهدنة السابقة بين الجانبين بعد أسابيع قليلة على الحرب، بعدما اعتقدوا بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو خضع لشروطهم، تماما كما اعتقد "حزب الله"، واستمر طويلا على قناعته، حتى شن نتنياهو حربه الكبرى على لبنان وتوجيهه هذه الضربة الكبرى للحزب التي دفعته إلى التراجع ووقف جبهة الإسناد مع التخلي عن مقولة "وحدة الساحات".

على أنّ واقع الفلسطينيين مختلف عن لبنان واليمن، فهم اصحاب الأرض والقضية تعود إلى أكثر من قرن من الزمن. ومع أنّ "حماس" قدّمت التنازل تلو الآخر، بقيت في المرحلة الماضية على مطالبها العريضة بوقف الحرب نهائيا ولو على مراحل، وعودة اللاجئين وفتح المعابر وانسحاب الاحتلال من قطاع غزة وقدمت تنازلات حتى في القضية الأساسية أي الأسرى.

مع مرور الزمن كان من الصعب على "حماس" (ومعها حركة "الجهاد الإسلامي") إعلان الهزيمة، واليوم ثمّة أسئلة كبرى تطرح نفسها حول ماهية المرحلة المقبلة، ما بعد الاتفاق الذي سيكون حمّال أوجه كما الاتفاق مع "حزب الله"، غزّاويا وفلسطينيا خصوصاً في ما يتعلق بالدولة الفلسطينية التي باتت سراباً.

فالدولة المأمولة التي نادى الفلسطينيون بها دوما وعادت قيادات الخارج التاريخية إلى الأرض الفلسطينية لإقامتها بعد اتفاق أوسلو، اصبحت في حكم النسيان.

فلا أحد يطرح هذه الدولة اليوم سيّما بعد كل المتغيّرات الدراماتيكية بعد الحرب على غزة، حتى بات الإسرائيلي لا يريد حتى السماع بها ناهيك عن الموافقة عليها.

الحقيقة اليوم أن حكومة اليمين اغتنمت فرصة "طوفان الأقصى" للانطلاق في مخططها الدائم للقضاء على أوسلو وأيّ شكل من أشكال الحكم الفلسطيني، وطبعا أيّ دولة تكون شريكة في الجغرافيا مع الإسرائيليين. فبعد رفض سابق لها، يذهب الإسرائيلي اليوم نحو الإطاحة بهذه الفكرة على طريق تصفية القضية برمتها من موقع قوة في هذه اللحظة السياسية بعد توجيه ضربات كبرى للمحور الإيراني، الذي انتهى عمليا كما يُقرّ قادة في فصائل المحور أنفسهم.

فبعد ضربات في غزة ولبنان والعراق وفي إيران نفسها وسقوط النظام في سوريا، وضربات في اليمن وتحضير لأخرى، بدا واضحا أنّ نتنياهو صدق مع جمهوره عندما وعد بتغيير وجه الشرق الأوسط مع التموضعات الجديدة. ولم يأخذ المحور جِدّيّا مقولة نتنياهو بأن ما حصل في السابع من أكتوبر هو 11 أيلول إسرائيلي. لكنّه كذب طبعا في حرصه على المحتجزين لدى "حماس" فهو لم يرد لحظة الوصول إليهم في صفقة تبادل على الشاكلة التي طالبت بها "حماس"، وهو ما ستعُدّه انتصارا لها.

يمكن القول إنها خسارة او نكسة للمحور الذي انتهى كبنيان مرصوص واتصال جغرافي أمني، ولو لم يهزم عسكريا في البر بعد صمود المقاومة في لبنان وغزة. لكنّ إسرائيل دمرت قدرات المحور وقتلت قياداته وعشرات آلاف المدنيين ودمّرت واحتلت ليس فقط في غزة، بل إنها توسعت في سوريا ودمّرت ما تبقى من الجيش السوري. ثم إنّ الوضع في الضفة الغربية ليس أفضل حالا بكثير فإسرائيل تمارس سياستها وتستفيد من حالة الصدام بين السلطة الفلسطينية والفصائل كما في جنين. ويبدو من الواضح بأن الضفة الغربية هي الهدف الاستراتيجي الأكبر اليوم والذي سيلي غزة، وما يحصل في الضفة يشكل فرصة مضافة لنتنياهو للمضي في مخططه الغزاوي بعدما دمّر معظم قدرات "حماس" والجهاد"، بحيث لن يكون الحكم لحماس كما كان سابقا.

كل ذلك أضعف قوة "حماس" في حربها، وإذا كانت الحركة على قناعة بذلك بعد أشهر من الحرب، فهي الآن باتت توافق على الاشتراك مستقبلا في لجنة إدارية إنسانية من شخصيات وفاعليات مجتمعية تتولى الإدارة في غزة. فبعدما ارتضت "حماس" العودة إلى ما وراء الستارة وترك السلطة تحكم، قدّمت المزيد بإقرارها بلجنة يُبحَث تشكيلها اليوم لتدير القطاع بموافقة "الجهاد" والقيادي الفتحاوي السابق زعيم "تيار الإصلاح الديموقراطي" لـ"فتح" محمد دحلان و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".. لكن ما زالت حركة "فتح"، من ناحيتها، أي السلطة عمليا، تتريث في الموافقة. ومَرَدّ هذا التريّث الفتحاوي عدم الرغبة في تصدّر المشهد وتحمّل أعباء القطاع الذي سيتحوّل الى "سجن كبير بشاويش" حسب التعبيرات الفلسطينية..

لكنْ بغضّ النظر عن نجاح المخطّط الإسرائيلي من عدمه فإن الحكومة الاسرائيلية ستضطرّ للاتفاق على غزة مع تقديم ثمن سياسي ما، بعد الثمن العسكري المرير بعدما اصطدم نتنياهو بحائط مسدود في غزة وباتت حربه عبثية. لكن الأخير أوقف حربه في لبنان بعدما حقق أهدافه المعلنة وبعدما تبيّن له استحالة تحقيق المزيد بعد تعثره البري في وجه "حزب الله". وهو سيلجأ إلى فرض رؤيته في غزة والضفة عبر منع فصائل المقاومة من الحكم وعزل السلطة الفلسطينية.

بذلك يصبح الفلسطينيون أمام كانتونين، غزة غربا، حيث لا إعادة قريبة للإعمار مع ابقاء الإسرائيليين على حرية القيام بعمليات أمنية وإبقاء واحتلالهم العسكري، والضفة الغربية شرقا. ويريد نتنياهو سواء في غزة او الضفة، تولية إدارات محلية أو بلدية أو عشائرية، ما يضع حدا للمقاومة المسلحة. والأهم أنه يضع نهاية لأي طموح سياسي مستقبلي لأي نوع من الحكم الذاتي للفلسطينيين.

في هذا الوقت، تعمل الحكومة الإسرائيلية بصمت على هدفها الأكبر المتمثل في القضاء على النظام الإيراني كون اسقاطه سيوجّه ضربة قاصمة للمحور برمّته وللفصائل الفلسطينية. وهي تمضي "داخليا" في عزل الضفة الغربية ومحاولة تنفيذ ما فشلت فيه في غزة تجاه مصر، اي تهجير السكان نحو الأردن.

وهي تبدو سعيدة بينما تراقب الاقتتال الفلسطيني بين السلطة والفصائل الذي يشير في أحد أوجهه الى صراع وجود فعلي لم يغب يوما.

فالسلطة التي تكوّنت أساسا من منظمة التحرير وحركة "فتح" لم تكن راضية في المجمل على استمرار "حماس" في المعركة المدمّرة في غزة، ولا على "طوفان الأقصى" من أساسه. وبعدما بدأت بانتقادات خجولة، صعّدت هجماتها على "حماس" وأعطتها طابعا عنيفا، وشخصيا احيانا، في حق قيادات الحركة.

ستشكل خسارة السلطة فرصة للإسرائيلي لتنفيذ سيناريو في الضفة مشابه لغزة تريد "حماس" جرّ إسرائيل نحوه

وتخشى السلطة، بعد المتغيرات السورية، (وهي خشية عربية للمناسبة من صعود التيارات الإسلامية)، من عودة "حماس" بقوة، وهي الفرع الفلسطيني لحركة "الإخوان المسلمين" التي كانت من المنتصرين في سوريا. والسلطة تتهم إسرائيل أصلا بالوقوف وراء تقوية "حماس" لضرب النضال الفلسطيني التاريخي وضرب "فتح"، الحركة الأم للنضال الفلسطيني، وكان ذلك منذ زمن طويل عند تصاعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987 التي كان لـ"فتح" الدور الأهم فيها.

أمّا الفصائل فتعتبر ما يجري في الضفة حربا استباقية من السلطة لتطويق ما حصل في سوريا من تمدّد للتيارات الإسلامية قد يفيد القضية الفلسطينية على المدى البعيد، وتقديما لأوراق الإعتماد للإسرائيلي وهي تبدو متشائمة من نية السلطة تجاهها مستقبلا..

المفارقة هنا أنّ السلطة، إذا لم تنجح في قتالها مع "حماس" و"الجهاد"، ستكون خسرت من نفوذها سياسيا وعسكريا وستفتح المجال للمزيد من الدعاية الإسرائيلية الهادفة لتعريتها ولفضح عجزها عن الحكم، وربما، كما يقول الفتحاويون، ستشكل خسارة السلطة فرصة للإسرائيلي لتنفيذ سيناريو في الضفة مشابه لغزة تريد "حماس" جرّ إسرائيل نحوه. وإذا نجحت ستكون قد سهلت، من دون أن تعلم، المخطط الإسرائيلي في ضم الضفة.

من ناحيته يريد نتنياهو ان يعمّق انغماسَ الفلسطينيين في الاقتتال تحيّنا لاتخاذ ذلك شكل الحرب الأهلية في الضفة والتي يأمل ان تُسقط معها رئيس السلطة محمود عباس، لتتولى بعده شخصية يسهل معها لنتنياهو بسط سلطته على الضفة.. وقد يقبل حينها بدور لها في غزة.

في المحصّلة هي محطّة وجودية بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب، وكانت لافتة للنظر هنا خريطة "إسرائيل التاريخية" التي عرضها موقع تابع لوزارة الخارجية، والتي تضم مناطق من الأردن وسوريا ولبنان. وإذا كانت الخريطة التي أثارت غضبا عربيا حتى من دول الاعتدال، هي غير خريطة "إسرائيل الكبرى"، إلا انها تشير في العلن إلى ما يتحدث عنه الإسرائيليون في الأروقة المغلقة.

وهو ما يدلل على ان حلم السلام، انطلاقا من تسوية عادلة مع الفلسطينيين يوفّر المخرج لدول عربية لإقامة السلام مع الدولة العبرية على اساس المبادرة العربية في قمة بيروت العام 2002 والتي استندت بدورها الى قرارات الشرعية الدولية، ليس سوى سرابا مع هذه النوعية من الحكومات الإسرائيلية التي لا تريد اي انهاء للاحتلال او عودة للاجئين، بل تهجير المزيد منهم واحلال المستوطنين مكانهم. وهي لم تكن لتصل إلى الحكم اصلا لولا يمينية الجمهور الإسرائيلي نفسه الذي بات غيره عن الذي توصل إلى تسوية واقعية مع الفلسطينيين في التسعينيات حين كان حزب "العمل" اليساري الأكبر في الدولة العبرية.

يبقى الرهان بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب على الزمن كما على تغير وازن في المزاج الإسرائيلي ليُنتج من هو عازم وقادر على صياغة حل مع الشعب الفلسطيني.. وهو الرهان الذي لا أفق له حتى الآن.