في زمن أصبحت فيه نسب المشاهدة والهوس بالانتشار السريع معيار النجاح، يشهد العالم، ولبنان بشكل خاص، موجة من استغلال الأطفال في البرامج التلفزيونية وصفحات التواصل الاجتماعي. هذا الواقع المؤسف سلطت عليه الأضواء مؤخرًا حلقة من برنامج "ميني مافيا" على قناة الجديد، التي قدمتها الإعلامية كارين سلامة. ففي لحظة أثارت جدلاً واسعًا، أطلق أحد الأطفال المشاركين تصريحًا سياسيًا متطرفًا، كاشفًا عن خطورة الزج بالأطفال في ساحات لا تناسب أعمارهم، حيث تتحول براءتهم إلى مادة للاستهلاك الإعلامي وقد تؤدي إلى إشعال نار الفتنة في مجتمع "واقف على صوص ونقطة."

برامج تلفزيونية وسياسات رخيصة

إن إدخال الأطفال في برامج تلفزيونية سياسية أو حوارات معقدة يعكس إهمالًا صارخًا لمفهوم الطفولة وما يجب أن يكون عليه مستقبلها. بدلًا من حماية الأطفال وتنشئتهم على قيم إنسانية وتعليمهم مهارات إيجابية، يتم الزج بهم في مشاهد تستهدف تحقيق نسب مشاهدة عالية وإثارة الجدل.

ما حدث في حلقة "ميني مافيا" ليس حالة منفردة، بل جزء من ظاهرة متنامية، يتم فيها تسليط الضوء على الأطفال لإطلاق تصريحات سياسية، أحيانًا بتوجيه واضح من الأهل أو المعدّين. هذه السلوكيات تترك آثارًا مدمرة على عقول الأطفال، إذ يجري استغلالهم كأدوات لنقل رسائل سياسية متطرفة، ما يخلق لديهم فهمًا مشوهًا للعالم من حولهم.

وهو ما يوضحه الدكتور أنطوان شرتوني المتخصص في الأمراض النفسية والتحليل النفسي وكاتب في أدب الأطفال، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" ويقول "قبل الحديث عن خطورة الإعلام والإعلان وتأثيرهما على الطفل، لا بد من تسليط الضوء على مشكلة أعمق تتمثل في كيفية إشراك الأطفال في مواضيع أكبر من قدراتهم العمرية. الطفل، في سنواته الأولى، يحتاج إلى وقت لاكتشاف ذاته واتخاذ قرارات صغيرة تناسب مرحلته العمرية. نحن، كأهل ومربّين ومتابعين، علينا أن ندع الأطفال يختارون وفقًا لميولهم واحتياجاتهم الطبيعية، بدلاً من ملء عقولهم بأفكار جاهزة ودفعهم للدفاع عنها دون وعي."

أبعاد المشكلة

ويشدد شرتوني على أنه "لا يمكن تحميل الطفل أفكارًا تفوق قدرته على الفهم والتحليل. عندما يُجبَر الأطفال على المشاركة في مواضيع سياسية أو اجتماعية معقدة، يُزرع فيهم نهج التفكير الأحادي، حيث يرون الأمور من منظور ضيق ومحدود. هذا الأمر خطير للغاية لأنه يمنع الطفل من تشكيل رأيه الخاص، ويحرمه من فرصة العيش ببراءة طفولته،" مضيفا أنّ "مشاهد مثل تلك التي ظهرت في أحد البرامج التلفزيونية، حيث بدت آراء الأطفال وكأنها انعكاس لعملية تلقين، تُبرز مدى خطورة هذا النهج. يبدو الأطفال في هذه الحالات وكأنهم تعرضوا لعملية "غسيل دماغ" تُجبرهم على ترديد أفكار لا يفقهون معناها، ما يعمّق لديهم رؤية سطحية للأمور، ويعطل قدرتهم على التفكير النقدي".

الأسباب الجذرية

ويردّ شرتوني الأسباب وراء هذا النهج إلى الانتماءات السياسية للأهل أو الجهات المشرفة على البرامج، فيُعامل بعضهم الطفل كأداة لنقل الأفكار السياسية، وكأن هذه الأفكار هي "الحقيقة المطلقة" التي لا تقبل النقاش. هذا التلقين المبكر يمنع الأطفال من اكتساب المهارات اللازمة لتحليل الأمور واتخاذ القرارات بشكل مستقل."

يضيف: "في الواقع، الأفكار السياسية، مثل أي مجال آخر، ليست مطلقة. هناك ما يناسب زمانًا ومكانًا معينًا، وهناك ما لا يناسبهما. لكن عندما يُفرَض على الطفل نموذج محدد للتفكير، يُجرَّد من القدرة على التكيف مع التغيرات المستقبلية أو فهم التنوع في وجهات النظر."

أما االاختصصية النفسية والاجتماعية لانا قصقص، فتعتبر في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ "ما حصل في البرنامج غير مقبول من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو حتى القانونية، إذ أصبح الاعلام يهدف فقط إلى رفع نسب المشاهدات ولو على حساب الأطفال، لأنه يراهم مادة دسمة وجذابة لارتباطهم بالبراءة، وكونه هشّا،"،منتقدة "عدم تطبيق القوانين على الفضاء الاعلامي الذي لا يأبه للمحاسبة، إنما قرار القاضية بمسح الفيديو المسرّب كان ايجابيا ولمصلحة الطفل."

وتلفت قصقص إلى أنّ "تفاعل الجمهور مع محتوى مماثل يدفع الاعلام إلى المزيد من استخدام الأطفال في برامج مماثلة، والأخطر من ذلك هو الثقافة الاجتماعية غير الموجودة عند بعض الأهل الذين يدفعون أولادهم إلى المشاركة في برامج مماثلة دون الأخذ في الاعتبار أهمية أن تصان خصوصية أولادهم."

وسائل التواصل من سيئ إلى أسوأ

في مطلق الأحوال، ليست وسائل التواصل الاجتماعي أفضل حالًا. آلاف الحسابات تستخدم الأطفال كمحتوى "ترفيهي" يجذب الإعجابات والتعليقات. بين مقاطع كوميدية مبالغ فيها، واستعراضات "للمواهب" وأحيانًا مشاهد محرجة تُفرض عليهم دون إدراكهم الكامل لما يحدث، تُستغلّ براءتهم لتحقيق مكاسب شخصية أو تجارية. كذلك، يقوم العديد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي من "المؤثّرين" وأصحاب الرأي "البلوغرز" وعشّاق الموضة "الفاشينيستاز" باستغلال أطفالهم لتحقيق الشهرة، والحصول على المزيد من الاعلانات ةنسب المشاهدات، وعلى هؤلاء أن يعلموا أن الطفولة ليست سلعة تُباع على شاشات التلفزيون أو منصات التواصل الاجتماعي. إن استخدام الأطفال لتحقيق أهداف سياسية، أو لجذب جمهور ترفيهي، يُعد انتهاكًا واضحًا لحقوقهم. هذا النهج يفضح أزمة أخلاقية في المجتمعات التي تغض الطرف عن استغلال الأطفال كوسيلة للتربح أو إثارة الجدل.

التأثير على الأطفال

تؤدي هذه الممارسات بحسب كل من قصقص وشرتوني إلى:

1. قتل البراءة: بدلاً من أن يعيش الطفل مرحلته العمرية الطبيعية، يُزج به في قضايا لا تناسبه، وهو ما يحرمه من التمتع بطفولته.

2. تشكيل عقلية ضيقة: يتعلم الطفل رؤية العالم بالأبيض والأسود فقط، ما يحدّ من خياله وقدرته على التفكير بشكل مبتكر.

3. فقدان الاستقلالية: يصبح الطفل تابعًا للآخرين، ينفذ ما يُطلب منه دون تفكير أو نقاش، مما يعزز لديه التبعية ويضعف شخصيته.

4. الضغوط النفسية: يشعر الطفل بالقلق والاحباط إذا لم ينال رأيه اعجاب الآخرين.

5. التنمر: سيتعرّض الطفل للتنمر بمجرد أن رأيه مغاير التنمر حصل على الهواء خلال البرنامج من قبل الأطفال بين بعضهم البعض.

6. فقدان الخصوصية: يصبح الطفل تحت الأضواء فاقدا القدرة على التراجع عن أقواله، كما قد يشارك الطفل معلومات شخصية تعرضه للخطر.

7. عرضة للاستغلال: قد يصبح الطفل عرضة للاستغلال من قبل وسائل اعلام أخرى أو أشخاص شاهدوا مداخلته.

طرق العلاج او الدعم

على مقلب آخر نصح المتخصصون طرق العلاج أو الدعم الآتية لمساعدة الأطفال الذين وقعوا ضحية استغلال:

1. إبعاد الأطفال عن التلقين السياسيي: من الضروري حماية الأطفال من الانخراط في قضايا أكبر من قدرتهم على الاستيعاب، وبدلاً من ذلك تشجيعهم على استكشاف ميولهم الحقيقية.

2. تعليم الاختيار الحر: على الأهل والمربّين تقديم خيارات متعددة للأطفال، وتركهم يقررون بأنفسهم وفقًا لما يناسبهم، بدلاً من فرض خيارات محددة عليهم.

3. توسيع آفاقهم: يجب تعليم الأطفال أن الحياة مليئة بالاختيارات والفرص، وأنه لا توجد حقيقة واحدة مطلقة. عليهم تعلم قبول التنوع وتقدير الاختلافات.

4. دعم الطفولة الطبيعية: بدلاً من إدخال الطفل في قضايا سياسية أو اجتماعية معقدة، يجب تركيز الاهتمام على تطوير مهاراتهم الأكاديمية والاجتماعية بطرق تناسب أعمارهم

5. تطبيق القوانين: يجب ان يكون هناك تطبيق صارم للقوانين بحق كل من يخالفها.

المسؤولية تقع على الجميع

وإلى ذلك تتوزع المسؤولية بين أقطاب ثلاثة هي الإعلام والأهل وسلطات إنفاذ القوانين، إذ على القنوات التلفزيونية أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية في عدم استخدام الأطفال في محتوى غير ملائم أو مؤذٍ. يجب وضع ضوابط واضحة تحدد كيفية ظهور الأطفال في البرامج، مع التركيز على حمايتهم. أما الأهل الذين يسمحون باستخدام أطفالهم لتحقيق شهرة أو مكاسب مالية فيتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية. الطفولة ليست فرصة للتربح، بل هي أمانة يجب حمايتها. بالإضافة إلى ما تقدّم، يجب على السلطات وضع قوانين صارمة تحظر استغلال الأطفال في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مع فرض عقوبات على المخالفين.