التسليم جدلاً بوصول المنح والمساعدات المالية الدولية لإعادة الإعمار إن لم يكن عاجلاً، فآجلاً، لا يعني أن العملية ستسير بسلاسة ومن دون تعقيدات. فالتمويل على صعوبته وأهميته قد يكون "أهون الشرور" بالنظر إلى بقية التفاصيل المرئية منها، والمخفية.

من حيث المبدأ ستتولى مجموعة من الجهات المتعاونة والمتناقضة عمليات مسح الاضرار، والتنسيق مع الجهات المانحة، واستلام المساعدات، وتوزيعها على المتضررين، وهذه الجهات هي:

- مجلس الجنوب الذي سيتكفل بمناطق الجنوب والبقاع الغربي وراشيا.

- الهيئة العليا للاغاثة التي ستتكفل بمناطق جبل لبنان بما فيها الضاحية، وبعلبك والشمال.

- مجلس الانماء والاعمار، سيتكفل بمتابعة الاضرار في البنى التحتية.

- وزارة الاشغال ستتكفل بالطرقات والمعابر والجسور.

- المؤسسات والجمعيات التي تدور في فلك حزب الله ومنها "جهاد البناء" و"معمار" و"وعد" التي ستتكفل بشكل اساسي بالضاحية الجنوبية لمدينة بيروت.

"إدارة وطنية" لاعادة الاعمار

إزاء هذه المشهدية المركّبة والمتّصلة بنفس الجهات التي سبق واضطلعت بعمليات الإعمار بعد "النكبات"، من الحرب الاهلية، مروراً بحرب تموز 2006، وصولاً لانفجار المرفأ، لا شيء يبشّر بالخير. ليس لكون العمليات السابقة شابها الكثير من علامات الاستفهام المرتبطة بالشفافية فحسب، إنما لغياب الرؤية السليمة والابتعاد عن مفهوم العمارة "الانسانية" في التخطيط والتنفيذ. ولتفادي هذا الخطر الداهم المتوقع تكراره يجب تشكيل "إدارة وطنية لاعادة الاعمار، تتبع مباشرة إلى مجلس الوزراء، ترتبط بعلاقة مباشرة مع البلديات واتحاداتها بما يحقق مفهوم الرؤيوية الوطنية الشاملة"، يقول الاستاذ المساعد في الجامعة اللبنانية، ورئيس "مؤسسة الجادرجي من أجل العمارة والمجتمع"، حبيب صادق، "فمن غير المقبول أن يبقى التعاطي مع المناطق على أساس إنها حكرٌ على طوائف معينة. فمهمة الإعمار وطنية، يجب ان تتكفل بها الدولة وتنعكس إيجاباً على كل لبنان." ومن المفترض بحسب صادق أن تشارك في هذه "الإدارة الوطنية" كل فئات المجتمع من مهنيين وأكادميين ومتخصصين بالاقتصاد والاجتماع، ونقابة المهندسين إلى جانب الوزارات كل باختصاصها. ذلك أننا لا نتحدث عن صب إسمنت فقط، إنما عن إعادة تأهيل بيئي واجتماعي واقتصادي للمناطق. ويجب أن نستفيد من حالة الدمار للبناء وفق رؤية جديدة، وتحويل حالة الخراب إلى ملفات قانونية تثّبت الاعتداءات وتبقى شاهدا للتاريخ، حتى ولو لم تأخذ راهنا في الاعتبار الدول ومؤسساتها القانونية".

الملكية الخاصة على حساب المصلحة العامة

مقابل التدمير العميق والممنهج للمناطق والذي أزال قرى وأحياء وأسواقاً تاريخية عن "بكرة أبيها"، ما زالت الدولة تتسلح بقانون يقدّس الملكية الخاصة على حساب الإرث والمصلحة العامة"، برأي صادق. "مع العلم أن أحد جواهر الهوية اللبنانية هو التراث العمراني". ولعل الأخطر، السير كما بعد حرب تموز 2006 بمقولة "الاعمار كما كان"! وهنا يسأل صادق: ماذا نعني بـ "كما كان"، بمخالفاته وتعدياته وتشوهاته العمرانية والحضرية؟ أو بعدم جدواه لرفع مستوى الحياة؟ فالعمران الذي كان، ولاسيما في المدن، لا يرقى للطابع التراثي والعمراني اللبناني ولا للعمارة الانسانية، التي تُعنى بالعلاقات الاجتماعية السليمة، بل كان يحمل إشكاليات كبيرة جداً". والسؤال الذي يفترض بالسلطة الاجابة عليه هو: كيف يجب أن نبني ونطور سياسة لإعادة الإعمار، تمتاز بالشفافية ولا تهدر المال العام وتتضمن رؤية مبنية على فهم مستقبلي للدور من إعادة الاعمار؟

مباردة لإعادة الإعمار

انطلاقا مما تقدم تسعى مجموعة من الناشطين والفاعلين لاطلاق مباردة لإعادة الإعمار. وتضم المبادرة إضافة للجهات الرسمية من وزارات وإدارات نقابة المهندسين، والجامعات، والمؤسسات المعنية بالتخطيط والعمران. "فالإعمار يجب أن ينطلق من رؤية واضحة تحولها الدولة إلى سياسات"، من وجهة نظر صادق. "وإلا فان تحديات إعادة الاعمار ستكون أخطر من الحرب والتدمير وأصعب حتى من التمويل . وعلى الرغم من عدم توقف الحرب بشكل نهائي وعدم وجود تمويل جدي، فان هذا يجب ألا يحول دون وضع تصور واضح لاعادة الاعمار تتبناها الدولة اللبنانية مستقبلا. وتكون مبنية على رفع مستوى المناطق التي دمرت باعتبارها فرصة لازالة كل التشوهات والتخطيط غير المجدي الذي كان موجوداً".

الموضوع الثاني الذي يجب أخذه في الاعتبار في أي عملية إعادة إعمار يتمثل بـ"الارث المعماري المميز للبنان"، وفق صادق، "فالمقومات الطبيعية والتراثية الموجودة لا تقتصر على المواقع التاريخية والقلاع، إنما أيضاً على المناطق والاسواق، ومنها على سبيل الذكر سوق النبطية التاريخي الذي دمّر بالكامل. ويشكل هذا الإرث أحد الثروات الجاذبة للاقتصاد اللبناني، يجب المحافظة عليه. قد كشفت الحرب عن قيمة هذه حاضرة النبطية التي كانت تاريخياً أحد الاسواق الرئيسية لشباب فلسطين وجنوب سوريا ولبنان".

التنظيم والتمويل

الافكار الجميلة والخلاقة تنقصها العديد من الشروط التنظيمية والتمويلية لتحويلها إلى افعال. فإلى جانب التخبط بين الوزارات والادارات والبلديات والجهات الخاصة، لا يبدو أن "التمويل سيتأمن بسهولة"، بحسب النائب فراس حمدان، "ولا يوجد إمكانيات لاعادة النمو إلا بالدعم الدولي المرتبط بالاصلاحات السياسية والاقتصادية. ذلك أن حجم الاضرار أكبر من كل المبادرات التي يقوم بها أي حزب واكبر حتى من القدرات التي تمتلكها الدولة اللبنانية".

بغض النظر عن إمكانية تطبيق الافكار، يبقى الأساس إيجاد الاطار المناسب لإشراك كل نخب المجتمع وفئاته بالرؤى والافكار، ومن ثم يأتي دور الدولة لتحويل الافكار إلى سياسات. وهذا ينسحب بشكل أساسي على إعادة الإعمار التي قد تتطلب 15 عاما في جنوب الليطاني وما لا يقل عن خمس سنوات في بيروت والضاحية، والنبطية وصور وبعلبك.