في نهاية كلّ عام، تكثر إطلالات المنجّمين الذين تشرِّع لهم القنوات هواءها بحثًا عن مزيد من المشاهدات. تطلق عليهم ألقابًا كـ "عالم فلكي" أو "خبيرة الأبراج" أو "سيدة التوقّعات" لإضفاء صدقية علمية أو عمق رؤيوي لتنبّؤاتهم. ثم تعمد طوال 365 يومًا إلى تفصيل أيّ حادث على مقاس توقّعاتهم، وتلجأ إلى "المونتاج" لتُطابق كثرة كثيرة من التوقعات على قلّة قليلة من الحوادث. فتُغرِق المشاهدين الباحثين عن "حبال الهواء للتعلّق بها" في عالم من التضليل، لكن صدق القائل "كذب المنجّمون ولو صدقوا".
أمّا في عالم السياسة، وخلال 365 يومًا من العام، فثمّة فرقاء يعتمدون على من يطلقون عليهم أسماء محلّلين سياسيين، أو باحثين أو خبراء إستراتيجيين أو رؤساء مراكز أبحاث مِمّن صدقيتهم تحاكي هؤلاء المنجّمين. يضخّون عبرهم معلومات معظمها مفبرك خدمة لأجنداتهم ولرفع معنويات جماهيرهم وإحباط أخصامهم. هذه الحقيقة كشفها العام 2024 بشكل جليّ لا لبس فيه، فأطاح صدقية "منجّمي السياسية المبرمجين" وظهروا عبر استعادة شريط مواقفهم وتحليلاتهم في زمن وسائل التواصل الاجتماعي و"اليوتيوب" كـ"المهرّجين".
استشراف المشهد اللبناني وتوجّه البوصلة السياسية مع انطلاق العام 2025 حكمًا لا يعنيان "التنجيم"، ما دمنا نعتمد على معطيات ولو بالإمكان أن تتبدّل، وعلى قراءات ولو بالإمكان ألّا تصيب. فأيّ قراءة مشروعة ما لم ترتكز على التمنّيات أو تعتمد عمدًا على مغالطات أو تسخّر خدمة لأجندات لأنّه حينذاك تدخل في إطار الغشّ والتضليل. لذا فإنّ 2025 هو عام الترتيبات بعد عام 2024 الذي طغت عليه إضاعة الفرص وهدر التسويات.
العام 2024 أطاح صدقية "منجّمي السياسية المبرمجين" الذين ظهروا عبر استعادة شريط مواقفهم وتحليلاتهم في زمن وسائل التواصل الاجتماعي و"اليوتيوب" كـ"المهرّجين".
فخريف 2024 شكّل شتاء محور الممانعة إذ اقتلعه بعواصفه من أكثر من بلد بعدما حمل ثلاثية قاصمة له:
* اغتيال الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله وضرب بنيته البشرية والعسكرية واللوجستية وقطع خطوط إمداده وتجفيف منابع وارداته بشكل كبير. فتخلّى "الحزب" عن "وحدة الساحة" وارتضى بـ"اتفاق وقف الأعمال الحربية" الذي شكّل إذعانًا للقرارات الدولية التي لطالما سعى إلى التملّص منها، وإقرارًا بانتهاء حقبة امتلاكه للسلاح.
* إطاحة نظام آل الاسد بعد نصف قرن ونيّف وإرغام إيران ومليشياتها كما "الحزب" على الهرولة للخروج من الساحة السورية. الأمر لا يقتصر على ضرب المدّ الحيوي للجمهورية الإسلامية الإيرانية والحديقة الخلفية لـ"الحزب" وقطع "الأوكسيجين" عنه بل يشكّل "ضربة قاضية" لمحور الممانعة الذي عملت طهران على بنائه منذ قيام الثورة الخمينية عام 1979.
* وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض مجدّدًا، هو الذي كان نجح في ولايته السابقة في تكبيل المحور بفرضه عقوبات موجعة على طهران، والقضاء على رأس حربتها ورجل الميدان والسياسة من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن قائد قوات فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.
خريف 2024 شكّل شتاء محور الممانعة إذ اقتلعه بعواصفه من أكثر من بلد
لقد أضاع محور الممانعة عبر "الحزب" كلّ فرص التسويات التي حملت إليه ما بين فتحه جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول 2023 وفتح إسرائيل جهّنم حربها في 23 أيلول 2024:
* طُرح عليه تطبيق القرار "-1701" فرفض، ثم أرغم اليوم على تطبيق الـ "+1701 ".
* طرح عليه الانسحاب فقط بضعة كيلومترات من الحدود فتعنّت، ثم أجبر اليوم على الانسحاب من جنوب الليطاني والتخلّي عن سلاحه في جنوبه وشماله بناء على اتفاق وقف الأعمال الحربية الذي وافق عليه عبر الرئيس نبيه بري ومن خلال وزرائه.
* طرحت عليه تسوية رئاسية تطيح مرشح "التقاطع" جهاد أزعور ومرشح "حماية ظهر المقاومة" سليمان فرنجية والإتيان بخيار ثالث لإدارة الأزمة فتشبّث بفرنجية، فيما مورست ضغوط حتّى من واشنطن على المعارضة للسير في الطرح الحواري الذي رفعه بري. ها هو اليوم أمام استحالة وصول رئيس لإدارة أزمة، بل لمواكبة المرحلة الجديدة، وتاليًا يكون بعيدًا كلّ البعد عن منطق "الحزب" وممارساته. سقفه بالحد الأدنى تطبيق اتفاق وقف الاعمال الحربية والقرارات الأممية المتصلة بلبنان من الـ 1559 وصولًا إلى الـ 1701.
اليوم ولّى زمن التسويات وها نحن أمام عام الترتيبات:
* في الملف الرئاسي، يتمّ ترتيب الاستحقاق. فلبنان، وإن لم يحظ برئيس في جلسة 9 كانون الثاني الحالي، أصبح حكمًا على مسافة قصيرة جدًا من عودة الحياة إلى قصر بعبدا. سقط حوار الرئيس نبيه بري كشرط مسبق للدعوة إلى أيّ جلسة لانتخاب رئيس، وها هو يتعهّد أن تكون الجلسة بدورات متتالية، أيّ التخلّي عن التعطيل الذي كان يمارسه "الثنائي" وحلفاؤه عبر الانسحاب من الجلسات وتطيير النصاب. كما انعدمت حظوظ "ابن الخط" و"حامي ظهر المقاومة" مرشّح الثنائي سليمان فرنجية.
* في ملف السلاح غير الشرعي، أكان السلاح الفلسطيني أو سلاح "الحزب"، بدأت الترتيبات العملية لجمعه عملًا باتفاق الطائف أولًا وبطاولة حوار 2006 والقرار 1559 وانتهاء بـ"اتفاق وقف الأعمال الحربية". أول الغيث، تسلّم الجيش اللبناني معسكرات "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" و"فتح الانتفاضة" وقواعدهما، وبدء المداهمات في المخيمات بعدما كانت "خطًا أحمر" كمخيم نهر البارد في نظر الراحل نصرالله وبعدما شكّلت ورقة بيد "المحور". كما أنّ تسوية "الإستراتيجية الدفاعية" التي طرحت خلال الحوار في عهد الرئيس ميشال سليمان وتنصّل منها "الحزب" وتمنّع يومذاك وحيدًا عن تقديم تصوّره بشأنها، هذه الإستراتيجية تخطّتها الأحداث وأضحت في خبر كان.
* في ملف الحدود السائبة مع سوريا وتصدير "الكابتغون" عبر لبنان إلى دول الخليج، سقطت جمهورية "كابتغون" آل الاسد وتكشّف حجم تورّطهم في هذه التجارة مع سيطرة الفصائل السورية المعارضة على البلاد. كما ولّى زمن ماهر الأسد و "الفرقة الرابعة" التي كانت تدير التهريب والمعابر غير الشرعية من الجانب السوري. أضف إلى ذلك أنّ العدوان الإسرائيلي قضى على معابر غير شرعية عدّة. عدا أنّ التعاون اللبناني مع الحكم الجديد في سوريا بُدئ قطافُ ثماره خصوصًا على صعيد التنسيق بين الأجهزة الأمنية.
* في ملف الفوضى أو غضّ الطرف عبر المعابر البرية والبحرية والجوية، يكفي الإشارة إلى إخضاع الوفد الإيراني كما الأميركي للتفتيش وتمرير الحقائب عبر "السكانير" في مطار بيروت الذي أضحى تحت إشراف الجيش اللبناني بعد انتهاء زمن الخط العسكري و"خط المقاومة".
ولّى زمن التسويات التي لم تنجب سوى كوارث على لبنان، ولم تنجز إلّا الإطاحة بالدستور والقوانين وعمل المؤسسات. ها نحن اليوم على أعتاب زمن الترتيبات لهذه الملفات ولأخرى كثيرة، فلنشارك في صنعه كلبنانيين كي لا يُفرض علينا تمهيدًا للمشهدية الجديدة للمنطقة حيث الاستقرار باب أساسي لأيّ سلام أو ازدهار.