منتجان مصرفيان مرتبطان أثارا في الأيام الماضية عاصفة من الأسئلة والتكهّنات. الأول إعطاء فوائد تصل إلى 45 في المئة على تجميد مبالغ نقدية جديدة بالليرة. والثاني إقناع قدامى المودعين بتقاضي ودائعهم المحجوزة على سعر صرف 15 ألف ليرة، وإعادة تجميدها على فائدة مرتفعة. وكلّما طالت سنوات التجميد استردّ المودع النسبة الكبرى من أمواله.

كلّ ما قيل من تحليل عن الغايات والأهداف فيه شيء من الصحة بالحالة اللبنانية الراهنة. فهذا الإجراء يتلاءم مع السياسة النقدية الهادفة إلى ضخّ الدولار في السوق، لموازنة الإنفاق الحكومي بالليرة الآخذ في الارتفاع. ويتوافق مع خطة امتصاص فائض الليرات و"حبسها" بعد تمديد وزارة المال مهل تسديد الرسوم والضرائب التي كانت تتقاضاها نقدًا، بسبب الحرب. ويحفّز الطلب على الليرة من جراء تصريف المخزّن من دولارات في المنازل، ويساعد المودعين على تحصيل جزء أكبر من ودائعهم المحجوزة في حال بقاء سعر الصرف ثابتًا...

ولكن هل تأتي هذه الاهداف من دون مخاطر؟ وما هي مصلحة المصارف على هذا الصعيد؟

الإيحاء بتقليص الخسائر

إذا وضعنا جانبًا النظرية الكلاسيكية التي تقول إنّ العوائد والمخاطر يرتبطان بعلاقة مطردة، بمعنى أنّه كلّما زادت مخاطر الاستثمار ارتفع العائد المتوقّع منه والخسائر كذلك، والعكس صحيح. فإنّ أكثر ما يهمّ المصارف من هذه العملية هو حثّ المودعين على بيع "لولراتهم" لديها على سعر 15 ألف ليرة. ولهذه الغاية تعمل بشكل غير مباشر عبر شبكات التسويق الخاصة والعامة، على الإيحاء أنّ سعر صرف الليرة سيرتفع بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وقد يصل بحسب ما سمعنا من تحليلات إلى 50 ألف ليرة. وإذا ما أضيف هذا التحسّن في قيمة الليرة إلى الفوائد الخيالية المعطاة، تراجعت نسبة الاقتطاع على ودائع Haircut إلى ما بين 30 و40 في المئة. وهذا قد يكون أقصى طموح المودعين. خصوصًا أنّ نسبة الاقتطاع ستكون أكبر في أيّ خطّة حكومية مستقبلية، هذا إن وضعت قيد التنفيذ! والمبالغ سيتم "تقسيطها" بالليرة على سعر صرف متدن على سنوات طوال، وستخسر الجزء الأكبر من قيمتها.

مصلحة المصارف

"المفارقة أنّ المصارف، خلافًا لشركات التداول، لا تستطيع بحسب القوانين المصرفية المحلية والدولية أن تأخذ مركزًا مفتوحًا "position"، أي الالتزام بتحقيق ربح على مدى معين، بناء على احتمالات مستقبلية"، بحسب مصدر مصرفي. ولكنّها تراهن على المتغيّرات المحلية والإقليمية لتحقيق مصالحها على حساب مودعيها مرة جديدة. كيف ذلك؟

نظرة واسعة إلى المشهد الاقتصادي والسياسي العام تتيح لنا رؤية مجموعة من المتغيرات، أهمها:

- "فورة" هذه المنتجات بشكل مفاجئ ومن خارج أيّ سياق بعد توقف إطلاق النار، وتبدّل المشهد السياسي في سوريا.

- تحسّن الليرة السورية وارتفاع قيمتها من 25 ألفًا مقابل الدولار، إلى ما بين 12 و13 ألفًا مباشرة بعد تبدّل المشهد السياسي.

- توقّع انتخاب رئيس للجمهورية مطلع العام المقبل وتشكيل حكومة فاعلة ستبادر إلى إقرار إصلاحات معلّقة.

- انتظار زيارة في شباط المقبل لصندوق النقد الدولي يضع فيها نقاط مطالبه وشروطه موضع التنفيذ بعد تراجع حدّة المعارضة داخليًا وإقليميًا على تدخّله في الشأن اللبناني بوصفه أداة من أدوات الاستكبار الأميركي، وسياساته غير المرغوبة في لبنان.

تدهور سعر الصرف

ما لا يعرفه الكثيرون أنّ الشرط الأول لصندوق النقد الدولي سيكون تحرير سعر الصرف، وفكّ التقييد أو التثبيت المصطنع مقابل الدولار، بالتوازي مع بدء تحقيق بقيّة الإصلاحات، وفي مقدّمتها إعادة هيكلة المصارف. والنتيجة الأولى لفك التثبيت ستكون بطبيعة الحال انخفاض سعر الصرف إلى معدّلات أدنى من 89500 ليرة، وسيتجاوز الـ 100 الف أو حتى أكثر، خلافًا لما يبشّر به البعض بحتمية ارتفاع سعر الصرف إلى 50 ألف ليرة أو حتى أكثر. "وفي هذه المرحلة الفاصلة تلعب المصارف بشكل مزدوج لتحقيق مصالحها"، بحسب المصدر، "فتسديد ودائع العملة الاجنبية بالليرة على سعر صرف متدن، مقابل إعادة وضعها لديها بإغراء الفوائد، يقلّل مطلوباتها بالعملة الأجنبية من جهة، ويسمح لها من جهة ثانية بردّ الدولار بالليرة بالمبلغ نفسه إنّما بقيمة متدنية تقلّ نحو 40 أو حتى 50 في المئة من القيمة الفعلية لسعر الصرف نتيجة تدنّي سعر الأخير. وديون المصارف بالليرة تجاه المودعين لا تشكّل أيّ عقبة أو مشكلة مهما زادت، فهي لا تعني صندوق النقد الدولي، ويمكن تسديدها من طبع المركزي لليرات. وذلك على عكس الديون بالعملة الأجنبية. وبهذه الطريقة "تشطف" المصارف موازناتها بمياه معاد فلترتها بأسعار الفوائد وتتخفّف من حلم المطلوبات بالدولار العاجزة هي والدولة عن إرجاعها".

الخسارة بالأرقام

في إطار متّصل يفنّد الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين خسارة المواطنين المحتومة من هذه العملية، خصوصًا في حال تدنّي سعر الصرف الحتمي نتيجة زيادة طلب المصارف على الدولار من الليرات التي تودع لديها. فتجميد وديعة بقيمة 100 مليون ليرة على فائدة 45 في المئة تعني فعليًا التخلّي عن 1117 دولارًا بسعر صرف اليوم. وبعد عام، وفي حال وصول سعر الصرف إلى 140 ألف ليرة سيستردّ العميل المبلغ الأساسي مضافاً إليه 45 مليون ليرة، أي 145 مليونًا، لكن قيمتها ستكون قد أصبحت 1030 دولارًا. وبالتالي يكون العميل قد خسر 80 دولارًا من كلّ 100 مليون ليرة، والمصارف ربحت 11 مليون ليرة.

مرّة جديدة تحمل السياسة المصرفية مخاطر محتملة بأموال المودعين. والغريب أنّ المواطنين يسيرون إليها بأرجلهم راضين، متناسين المثل البسيط الذي يقول "من جرّب المجرب كان عقله مخرب".