تتجه الأنظار في شمال لبنان منذ سنوات إلى بدء إعادة الإعمار في سوريا. جميع التوقعات والتحليلات تعطي عاصمة الشمال طرابلس وجوارها دورًا متقدمًا في العملية. فالمدينة "الخام" لا تمتاز بـ"التصاقها" بالشام جغرافيًا فحسب، إنّما أيضًا بامتلاكها مقدرات طبيعية وبشرية وبنى تحتية، تجعل منها الأكثر كفاية لتكون منصّة الانطلاق للشركات العالمية، ومحطة لاستقبال البضائع والمواد الأولية، ومورّدًا للعمالة المتخصصة بغية المساهمة في ورشة البناء التي طال انتظارها.
من الناحية النظرية، هنالك في شمال لبنان، وتحديدًا في طرابلس، مرفأ بحريّ يعتبر من حيث الموقع وعمق المياه الأهم على ساحل المتوسط. وهنالك مطار دولي في منطقة القليعات القريبة مهيّأ لإعادة التشغيل سريعًا. وترتبط المناطق الشمالية بالساحل السوري، وتحديدًا بمحافظتي طرطوس وحمص، بأربعة معابر حدودية برية هي: العريضة، الدبوسية، تلكلخ، الجوسية. يضاف إلى هذه المعابر وجود سكة حديد قائمة تربط طرابلس بحمص. كما هنالك في المدينة "منطقة اقتصادية ذات طبيعة خاصة"، ومعرض مترامي الأطراف يمتدّ على مساحة كيلومتر مربع. فعليًا، كلّ هذه المرافق إمّا معطّلة كليًا كالمطار، وسكّة الحديد، والمنطقة الخاصة، وإمّا تعمل بأقلّ بكثير من قدرتها الفعلية لأسباب تقنية في الشكل، وسياسية في المضمون، كما يحلو لأبناء الشمال توصيفها.
الرؤية الإنمائية أولًا
لعبُ الدور المحوري في إعادة إعمار سوريا، وتحقيق النمو المفترض في شمال لبنان خصوصًا، وبقيّة المناطق عمومًا يتطلّب "رؤية إنمائية وتنموية أوسع وأشمل من الموجود"، يقول رئيس غرفة التجارة والزراعة والصناعة في طرابلس والشمال توفيق دبوسي. "وبدأنا منذ سنوات وضع تصوّر إنمائي عام وشامل وحديث، مدعّم بدراسات فنية وعلمية لكيفية الاستفادة من الجغرافيا، والمساحات والغنى الطبيعي والبشري. فأعددنا دراسة متخصصة للحركة البحرية والجوية في شرق المتوسط. ودراسة أخرى للمناطق من الناقورة إلى العريضة لنستكشف أفضل المواقع لإقامة "مرفأ محوري" (hub ports)، لا يشبه الموجود في مرافئ بحرية في لبنان وبلدان الجوار من سوريا إلى العراق، إنّما يشبه إلى مدى معيّن الموانئ في سينغافورة ودبي". ومما تبيّن أنّ المكان الأفضل هو في شمال لبنان بين المرفأ الحالي والحدود السورية. وسيكون هدف الميناء المحوري خدمة اقتصاديات العالم في شرق المتوسط. وهذا ما يساهم في قيام خطوط بحرية وجوية جديدة، ويخفف كلفة النقل ويطلق آلاف فرص العمل، ويرفد البلد بالاستثمارات والعملة الصعبة، ويستولد شراكة دولية في التجارة العالمية تجعل من لبنان شريكًا حقيقيًا مع الاقتصاديات الدولية. الأمر الذي لا يعيد إليه ما فقده في دوره الخدماتي المحوري على صعيد المنطقة فحسب، "إنّما أيضًا يعزّز الأمن والأمان"، برأي دبوسي، "لأنّ استقراره يصبح من أمن المجتمع الدولي واستقراره. وذلك على غرار ما يحصل في سنغافورة وغيرها من الوجهات".
يمتد المشروع النموذجي من مرفأ طرابلس إلى الحدود السورية. ويتضمّن مرفأ محوريًا ومطار محوريًا، ومنصّة محورية للنفط والغاز
القدرة المحدودة على لعب دور اقتصادي راهنًا
من الممكن أن تلعب بعض المرافئ في شمال لبنان بحالتها الراهنة دورًا في إعادة إعمار سوريا بسبب الحاجة وعدم وجود بديل آخر. فمرفأ طرابلس الذي يمتاز بعمق مياهه وقدرته الاستيعابية قد يخصّص لاستقبال البضائع والمواد لإعادة الإعمار في حمص القريبة حيث يُعاد نقل البضائع الواصلة برًا بالشاحنات. ذلك أنّ ميناءي اللاذقية وطرطوس في سوريا سيكونان المسؤولين عن وصول البضائع إلى محافظات وسط سوريا وشمالها شرقها وغربها. وباستثناء الميناء، الذي لم تنفذ عملية توسّعته المطلوبة من قرض البنك الاسلامي، وإمكانية الاستفادة الضئيلة من معرض رشيد كرامي، وبعض المساحات لإقامة مكاتب الشركات التمثيلية وفعالياتها، فإنّ بقية البنى التحتية والمرافق القائمة من سكة الحديد، والمطار، والمنطقة الاقتصادية الخاصة، والمنشآت النفطية... لا يمكن الاستفادة منها. وذلك لغياب الدور الإنمائي والتنموي، وحتّى الإداري للدولة اللبنانية التي تعمل منذ سنوات كـ"مصرّفة للأعمال"، من وجهة نظر دبوسي. كما تغيب عن مناطق الشمال الفنادق، والمستودعات الكبيرة، وشركات تأجير الخدمات وشبكات المواصلات الحديثة، والبنى التحتية المعلوماتية والتكنولوجية وغيرها العديد من الأمور التي تحتاج إليها الشركات والمنظمات الدولية لاتخاذ أيّ منطقة منصّة لانطلاق أعمالها. وعليه، "أجرينا في غرفة الشمال اتصالات بمختلف الأطراف الاستثمارية العالمية وسفارات الدول الاجنبية من "موانئ دبي العالمية"، و"الشركات الألمانية والصينية"، والسفارة الأميركية في بيروت لوضعها في أجواء المشروع الرائد لمنطقة الشمال ولبنان".
أهمّية المشروع النموذجي
"يمتد المشروع النموذجي من مرفأ طرابلس إلى الحدود السورية. ويتضمّن مرفأ محوريًا ومطار محوريًا، ومنصّة محورية للنفط والغاز، بغضّ النظر عن استطاعتنا إخراج الذهب الأسود من مياهنا قريبًا أو عدم الاستطاعة"، يقول دبوسي. "إذ يمكن إعادة تفعيل الخط النفطي الواصل من العراق، (IPC). إذ أُنشئَت في العام 1940 مصفاة لتصفية النفط الخام المستورد عبر خطوط أنابيب من حقول كركوك في العراق، بسعة 21000 برميل في اليوم". وفي العام 1973، تولّت الحكومة اللبنانية إدارة هذه المنشآت، قبل أن تتوقف الأخيرة بفعل الحرب، وتتحوّل لتخزين الفيول المستورد من قبل الدولة، وحديثًا من قبل الصناعيين. وبرأي دبوسي "لا يزال الأوروبيون والعراقيون والسوريون الذين تمر خطوط النفط بأراضيهم، بحاجة إلى مثل هذا المشروع. وبالتالي، يمكن تفعيله من جديد بسهولة عبر إبرام اتفاقية جديدة تصبّ في مصلحة كلّ الدول".
أمّا بالنسبة إلى مطار الرئيس الشهيد رينيه معوض في القليعات – عكار، فإنّ تشغيله معقّد. فمساحته 3 ملايين متر مربع، لكن الدولة تضع يدها مجّانًا على مليونين ونصف المليون متر منها. وهي عاجزة اليوم وغدًا عن تسديد ثمن الاستملاكات. لذلك "درسنا إمكانية ردم حوالى 50 مليون متر مربع في البحر من مرفأ طرابلس للحدود مع سوريا، يضاف إليها استعمال 50 مليون متر مربع على اليابسة، لتصبح حوالى 100 مليون متر مربع تسمح بإنشاء المطار إلى جانب المرفأ ومصافي النفط، فضلًا عن المصانع والمشاريع التي تتناسب مع هذه المنطقة"، بحسب دبوسي. "ويكون القسم الأكبر من هذه المنطقة في سهل عكار. وتؤمن عبرها كلّ العمليات عبر الشاحنات أو القطارات إلى سوريا والعراق ومنهما إلى العمق العربي".
المشروع لا يكلّف الدولة "قرشًا"، ويمكن تنفيذه بسهولة مع القطاع الخاص عبر العديد من آليات الاستثمار الحديثة، وهو لا يساعد في إعادة الإعمار في سوريا بكفايةعالية فحسب، إنّما أيضًا يؤمّن النموّ الحقيقي للشمال وعموم لبنان.