في عتمة الانهيار ينجذب حَمَلة الدولارات إلى أنوار "كونتوارات" التداول الحُمر التي تظهر على شكل تطبيقات (Applications) يدخلونها طمعًا بتحقيق الربح السهل والسريع، بعدما أبعدتهم "مقصلة" التكلفة الانتاجية عن فرص الاستثمار المجدي. البراعة التسويقية المعطوفة على أقدم وسيلتين للإغراء وهما: المال والجمال اللذان يعيدان إدخال أصحاب الرساميل المتواضعة إلى فخ "العوائد" المرتفعة بأرجلهم. يوظّفون أموالهم عـ "العمياني"، متناسين القاعدة البسيطة في علم المال، التي يفترض أن يكونوا قد تعلّموها إبان الانهيار بالطريقة الصعبة التي لا تُنسى: كلّما ارتفع العائد المتوقّع على الاستثمار، زادت المخاطر والخسائر كذلك.

تنتشر "الكونتوارات" المالية مثل الفطريات، بعضها تعمل متخفية تحت عباءة شركات صيرفة، وأكثريتها تعمل على المكشوف عبر تطبيقات على مواقع التواصل الاجتماعي. وبغضّ النظر عن كونها "مبادرات" لا تمتلك أيّ حيثية قانونية ولا تخضع لتنظيم هيئة الاسواق المالية ورقابتها، أو أية هيئة رقابية أخرى، فهي إمّا تتبع نظام الاحتيال الهرمي" Ponzi scheme "، وإمّا توظف الأموال في أكثر الأدوات المالية عرضة للتقلّبات الحادة مثل العملات الرقمية. وإذا كانت هذه الأخيرة تحقّق الأرباح الكبيرة راهنًا لأسباب ظرفية، فمن يضمن عدم انهيارها؟ وما هي وسائل الحماية التي يمكن اتخاذها لعدم ضياع أموال جُمعت من تعويضات ومدخرات وبيع أراض وممتلكات؟!

نقص كبير بالوعي

"لا حماية للمتداول البسيط، إلّا الوعي، والابتعاد عن الطمع"، برأي المحامي المتخصّص بالأسواق المالية عماد الخازن. إذ ليس من "عاقل" يمكن أن يصدّق أن تصل العوائد في أيّ استثمار إلى أكثر من عشرة في المئة شهريًا، مع عمولة تصل نسبتها الى عشرة في المئة إضافية إلى المبلغ المستثمر من أي متداول جديد يقوم المستثمر الأول باجتذابه. ومن الصعوبة بمكان ملاحقة المحتالين من قبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، والجرائم المالية لكون المستثمر الأساسي مثله مثل هذا الأخير الذي ورّطه، فالاثنان "آكلين نفس الضرب". فالمحتال الأساسي كثيراً ما يكون مجهول الهوية ومتخفّيًا وراء تطبيقات معقّدة ويصعب الوصول إليه نظرًا إلى التكنولوجيا المعقّدة التي يعتمدها".

لا أرباح من دون خسائر

"ما يجري على أرض الواقع أنّ هناك أشخاصًا، بعضهم محتالون وبعضهم جاهلون، يوهمون أصحاب الرساميل بتشغيل أموالهم مقابل عوائد كبيرة. وبغضّ النظر عن حسن النية أو سوئها، فإنّ الفئتين تَعِدان بالأرباح المضمونة دائمًا، من دون ذكر أيّ شيء عن إمكان الخسارة المرتفعة. وما يزيد من اطمئنان صاحب المال هو الدفعات التي يغدق بها عليه المحتال على قاعدة "من دهنو سقّيلو"، برأي الخازن. "وإن استعمل المحتال تلك الأموال في أيّة استثمارات، فمن المستحيل أن تدرّ ربحًا مضمونًا يصل إلى النسب التي يقدّمها إلى مستثمريه. خصوصًا أنّ تشغيل الأموال يكون أشبه بالمقامرة، من دون أيّ ضوابط أو معرفة مسبقة أو محاسبة إذا كان المستثمر فعليًا يستثمر تلك الأموال في الأسواق المالية أو في التداول في العملات المشفّرة، أو يشغّلها في الكازينو أو في سباق الخيل، أو حتى في الرهان على مصارعة الديوك. "وهذا مكمن الخطورة الأساسي في هذا النوع من التداول"، برأي المحامي الخازن. وهو "أبعد ما يكون عن مفهوم إدارة الاستثمارات المالية، والسوشال ميديا أصبحت كسيف ذي حدين، فهي من جهة تساعد في التوعية من مخاطر مثل هذه التطبيقات أو الاستثمارات الوهمية، ومن جهة ثانية تساهم في التسويق لتلك التطبيقات والاستثمارات الوهمية ونشر الدعاية المضللة. وهنا يدخل دور الأجهزة القضائية، وتحديدًا النيابة العامة المالية، لحماية المستثمرين. خاصةً أنّ الوجوه المسوّقة لتلك التطبيقات معروفة، وإن لم تكن مشاركة ومستفيدة مباشرة في عملية الاحتيال، ولكنّها تساهم في نشرها".

غياب هيئة الأسواق والمصارف

المفقودان الأكبران في ظلّ هذه الهمروجة يبقيان هيئة الأسواق المالية، المسؤولة عن تنظيم ومراقبة المتداولين أفرادًا كانوا أم شركات، والمصارف التجارية. فالتصرّف بأموال المواطنين يتطلّب أن تكون الشركة مرخّصة ومراقبة من قبل تلك الهيئة، والمتداول "Broker"، الذي يدير أموال المستثمرين صاحب خبرة ومؤهلات، وخاضعًا للامتحانات التي تنظّمها تلك الهيئة. أمّا في ما يتعلق بالمصارف، فكان صادمًا حجمُ تراجع القطاع الذي يفترض به استيعاب الرساميل وإعادة ضخّها بالاقتصاد على شكل قروض الاستثمار والاستهلاك، وبالتالي تحريك عجلة الاقتصاد. وبالأرقام تراجع عدد فروع المصارف بين كانون الأول 2020 وكانون الأول 2023، من 992 إلى 695. وانخفض عدد الموظفين من 21163 إلى 13670. كذلك تراجع عدد بطاقات الدفع "credit cards" من 350399 إلى 61995، أمّا بطاقات الخصم "debit cards"، فقد تراجعت من نحو مليون و780 ألفًا إلى مليون 194 ألفًا. وتراجع أيضًا عدد نقاط البيع التي تستقبل البطاقات من 33442 نقطة بيع إلى 20802.

وبالفعل، هناك من يرى أنّ المصارف لم تكن أفضل من "دكاكين" التداول، وهذا فيه جزء من الحقيقة. خصوصًا أنّها وظّفت كلّ أموالها تقريبًا مع عميل ليس من أهل الكفاية، أضاعها وأغرق البلد في أزمة نقدية لا تنتهي. ومع هذا ضخّت المصارف في السنوات الأخيرة حوالى 40 مليار دولار في السوق قروضًا للشركات والمؤسسات والأفراد، وهو ما وفّر لكثيرين فرصة الحصول على حاجات أساسية من منازل وسيارات وأعمال.

الاحتيال عبر تطبيق Bytesi

لفت الخبير في الأمن السيبراني والتحوّل الرقمي رولان أبي نجم إلى أنّ التطبيق الذي احتال على أصحاب الأموال وسرقها هو Bytesi وفي تغريدة له على منصة (X) قال أبي نجم إنّ عدد المتضررين من الاحتيال أصبح 60 شخصًا. وتأتي هذه الشكاوى عقب أشهر من التحذير من التورط مع مثل هذه المنصّات التي تمتهن الاحتيال المالي. ويقع ضحيتها مئات المتضررين.

إفلاس تطبيق Bytesi وإغلاقه لا يعنيان البتة انتهاء المشكلة، وما لم تتم التوعية تجاه الأعمال الاحتيالية في هذه المنصّات ستفرّخ كالفطريات، من دون القدرة على وقفها أو الحدّ من آثارها. والكثيرون من أصحاب المبالغ الصغيرة سيقعون ضحيتها كونها تتغذى على الطمع والهبل.