هنالك 65 دولة تعتمد الدولرة (الجزئية أو الكلية) في اقتصاداتها، منها 5 دول تعتمد الدولار الأميركي عملةً رسمية. لهذه الدولرة التي تجلب الاستقرار الاقتصادي على المدى القصير، عواقب وخيمة على المديين المتوسّط والبعيد، خصوصًا إذا لم يتمّ القيام بالإصلاحات اللازمة. ولبنان لا يزال بعيدًا عن هذه الخطوة – أصلًا تحتاج إلى وقت طويل – وهو ما يعني أنّه في ظلّ الظروف الحالية، تزداد احتمالات سيناريو الانهيار بحكم غياب مصادر الدخل بالعملة الصعبة.
هذه المُقدّمة التي تُلخّص مضمون المقال، لا تأتي على ذكر سيناريو تفاؤلي ينصّ على استعادة الثقة بالليرة اللبنانية وعودتها إلى خدمة النشاط الاقتصادي في حال كانت هناك إصلاحات وجرى القيام باستثمارات، قد تكون في جزء منها في إطار صفقة سياسية. وبحسب التحليل الاقتصادي، لا نرى أنّ لبنان يسلك هذا الطريق، خصوصًا أنّ الوقت بدأ ينفد بعد إقفال طرق التهريب، ووضع لبنان على اللائحة الرمادية، مما يترك له هامشًا صغيرًا لتصحيح ما ارتكبته السياسات الاقتصادية للحكومات المتتالية.
في حال لبنان، هناك شبه تأكيد أنّ الدولرة مُستمرّة إلى فترة طويلة لأنّ استعادة الثقة الداخلية والخارجية بالليرة اللبنانية تحتاج إلى وقت.
يُخبرنا التاريخ أنّ عددًا قليلًا من الدول نجح نسبيًا في عملية الدولرة. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ النتائج غير واضحة. فمثلًا، اعتمدت بنما الدولار الأميركي عملة وطنية في العام 1904 بالتوازي مع "البالبوا" (عملة بنما). وهو ما أدّى إلى استقرار اقتصادي من خلال السيطرة على مُعدّلات التضخّم واستمالة الاستثمارات، وجذب القطاع المصرفي أموالًا طائلة بحكم قوة النظام المصرفي البنمي. الجدير ذكره أنّ بنما تمتلك مداخيل بالدولار الأميركي (قناة بنما، التحاويل المصرفية...). إلّا أنّ هذا النجاح قابلته تحدّيات تمثّلت في فقدان المصرف المركزي البنمي أدوات السياسة النقدية في مواجهة الصدمات واعتماده على قرارات الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما جعل تأثير هذه الصدمات أعنف من المعهود لأنّ الدورات الاقتصادية بين البلدين ليست مُتطابقة. كذلك حال الإكوادور الذي أصبح يعيش على وتيرة أسعار النفط، إذ يكفي مراقبة سعر هذا الأخير لمعرفة الوضع المالي والاقتصادي في هذا البلد.
أمّا المثال الأوروبي على " اليورويزة"، فيتمثّل في اعتماد المونتينيغرو (لا ينتمي إلى الإتحاد الأوروبي) على اليورو عملة رسمية في العام 2002. ونجح المونتينيغرو في استعادة الاستقرار والصدقية بعد سنين من التضخّم المفرط، وانتعشت السياحة ومعها التستثمارات، إلّا أنّه في المقابل أصبح رهين السياحة، التي هي المصدر الأساسي للمداخيل بالعملة الصعبة، كما حصل خلال جائحة كورونا.
هذه الأمثلة عن النجاحات العالية الكلفة لا تعني أنّ الدولرة أو اليورويزة هي خيار سليم. فعلى الرّغم من أنّها نجحت في فرض الاستقرار الاقتصادي في هذه الدول بفضل الإصلاحات التي قامت بها، فقد جعلت من هذه الدول رهينة دخول العملة الصعبة. وأفقدتها أيّ قدرة على استخدام السياسات النقدية لمواجهة الصدمات كجائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوركرانية أو التضخّم الناتج منهما.
وفي حال لبنان، هناك شبه تأكيد أنّ الدولرة مُستمرّة إلى فترة طويلة لأنّ استعادة الثقة الداخلية والخارجية بالليرة اللبنانية تحتاج إلى وقت. وبالتالي هناك سيناريوان يظهران في الأفق:
الأول – سيناريو تفاؤلي (احتمالاته قليلة) ينصّ على إعادة تكوين السلطة التنفيذية والقيام بإصلاحات بحدّها الأدنى (سياسية وقضائية واقتصادية). وفي هذه الحال هناك احتمال الخروج من الأزمة، إلّا أنّ لبنان سيبقى رهينة دخول العملة الصعبة من بعض القطاعات كالسياحة وأسعار النفط (في حال نجاحه في استخراج غازه) وسيفقد أيّ قدرة على استخدام أدوات السياسة النقدية.
الثاني – سيناريو تشاؤمي (احتمالاته أعلى من السيناريو التفاؤلي) ينصّ على فشل القوى السياسية في القيام بالإصلاحات اللازمة. وبالتالي من المتوقّع أن يواجه لبنان مجموعة من التحديات الاقتصادية والمالية الخطيرة:
1 - التضخّم: إذا لم يستعد لبنان الثقة في مؤسساته وعملته، فمن المتوقّع أن يستمر الاقتصاد في مواجهة التضخم المرتفع. وسيكون المصرف المركزي عاجزًا عن إدارة الليرة بشكل فعّال، وهذا يعني أنّ ضغوط التضخم ستستمر، وقد ترتفع أسعار السلع والخدمات (المرتفعة أصلًا بفعل الفساد) ارتفاعًا يؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين.
2 - تقلّبات سعر الصرف: في ظلّ اعتماد الدولار الأميركي في التعاملات، سيكون سعر الصرف سعرًا إداريًا يخدم المالية العامّة وليس الاقتصاد. وسيكون هناك نقص حاد في الدولار الأميركي نتيجة غياب تدفّقه من الخارج، وإدراج لبنان على اللائحة الرمادية وعزله عن النظام المالي العالمي. وهو ما سيؤدّي إلى الانهيار الكبير.
3 -انخفاض ثقة المستثمرين، إذ إنّ غياب الإصلاحات الاقتصادية والمالية سيحجب الاستثمارات المحلية والأجنبية من باب فقدان الثقة بالبيئة الاقتصادية غير المستقرة، وهو ما يضرب هيكلية النمو الاقتصادي على المدى البعيد. واستطرادًا سيكون التراجع في الشقّ الاجتماعي.
4 - كذلك من المتوقّع أن تتسع الفجوة الاقتصادية فتزيد الدولرة من التفاوت الاقتصادي بحكم أنّ اللاعبين الاقتصاديين الذين يمتلكون قدرات مالية، سيعمدون إلى الاحتفاظ بالأصول بالدولار، وفي المقابل سيعاود أرباب العمل دفع الأجور بالليرة اللبنانية، وهذا سيُخفّض من قدرتهم الشرائية، واستطرادًا ستحدث اضطرابات اجتماعية على مثال ما حصل في تشرين الأول من العام 2019.
5 - عدم قدرة الدولة على ردّ المستحقّات المتوجّبة عليها من دينها العام، وهو ما يعني عدم قدرة المصارف على سدّ هذه الودائع في المدى المنظور. وهذا الأمر سيكون له تداعيات كارثية على الاقتصاد والمواطن.
6 - بحكم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، فإنّ عدم القيام بإصلاحات من شأنه أن يعزل لبنان عزلًا كاملًا عن المجتمع الدولي – هو الذي يُعاني من ضعف الروابط مع المؤسسات المالية الدولية – عبر وضعه على اللائحة السوداء، وهذا يعني المزيد من التفقير للشعب وضرب هيكلية النمو الاقتصادي والاجتماعي.
في الختام، ليس بالوسع القول إلّا أنّ الاستمرار في الدولرة من دون إستراتيجية مدروسة وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية، هو عملية انتحارية أكيدة إذ سيواجه لبنان تراجعًا اقتصاديًا وتردّيًا اجتماعيًا وعدم استقرار سياسي حتمي في المدى المنظور. الدولرة وحدها لا يمكن أن تعالج المشكلات الهيكلية في الاقتصاد اللبناني. فالإصلاحات الشاملة ضرورية من أجل استقرار الاقتصاد واستعادة النمو والثقة العامة.