تلتقي القوى السياسية اللبنانية في السلطة والمعارضة على السواء، وفي سابقة لم تألفها سنوات الخلاف والصراع السابقة، على القول بأن لبنان هو الآن أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء نفسه دولةً ودوراً على أسس ثابتة وغير معرّضة للاهتزاز الدوري على وقع الصراعات الخارجية، ولكنّ التقاءها مشوبٌ بعيوب قراءة الواقع وأعطاب سوء التفسير والتقدير.
هذا الالتقاء النادر على شوائبه يحتاج إلى ترجمة واقعية لئلّا يبقى كتمنٍّ عابر، وفي إطار الشعار السياسي الدعائي الذي يبرع السياسيون في استخدامه للكسب الشعبوي المتقلّب.
يجب أولاً الاعتراف بأن الفرصة التاريخية لإنقاذ لبنان سنحت بفعل وبفضل التطورات والمتغيرات السياسية والميدانية التي حصلت في لبنان وسوريّا والمرشّحة للتوسّع نحو ميادين أخرى في المرحلة الطالعة.
وعلى القوى التي تعترف بهذه الفرصة أن تدرك ما يتوجّب عليها القيام به والتزامه.
وتقتضي المصارحة الوطنية والسياسية أن يعترف المتحدّثون عن فرصة الانقاذ، ولو بصعوبة، بالحقائق والوقائع التي غيّرت الموازين في لبنان وسوريا، ويعملوا بموجبها كي تتضافر المواقف نحو بلورة صيغة الخروج من الأزمة.
وبالمصارحة نفسها، يأتي في مقدّمة هؤلاء المتحدّثين أولئك المنضوون تحت لواء ما تمّ التعارف على تسميته ب"الثنائي الشيعي"، ليس على خلفية تصنيفه الفجّ خاسراً أو مهزوماً، بل على أساس المساواة بين المكوّنات السياسية والطائفية بعد مرحلة قاسية من الغلبة بتفوّق السلاح.
إن فرصة لبنان للخروج من أزمته تعني بوضوح العودة إلى التكافوء في الحضور والحقوق والأدوار، خصوصاً أن هناك فرصة سابقة تمّ هدرها سنة 2005، ويجب عدم تكرار هذا الهدر.
الفرصة السابقة المهدورة كانت على أثر انسحاب جيش نظام بشّار الأسد وإقدام قوى "14 آذار" آنذاك، وبنيّة سياسية ووطنية صافية، على احتضان الذين فقدوا سندهم العسكري والسياسي، تحت ما عُرف ب"الاتفاق الرباعي" في الانتخابات النيابية، فسارع "حزب الله" إلى إنكار الهدف الوطني الإنساني لذاك الاحتضان بعقد "تفاهم 6 شباط" الثنائي مع "التيّار العوني".
كان واضحاً أنه "تفاهم" في مواجهة سائر المكوّنات من سنّة ودروز ومسيحيين الذين باتوا لاحقاً أكثرية ساحقة بفعل الانتخابات، وكذلك في مواجهة معارضيّ "الحزب" داخل الطائفة الشيعية نفسها، فضلاً عن تكريس سلاحه في البند العاشر من "التفاهم" نفسه، وبدون أي ذكر أو دور للجيش اللبناني، ك"وسيلة شريفة مقدّسة" ل"صون سيادة لبنان واستقلاله"!
اتضح عدم وجود قوى سياسية تسعى للتعامل معهما كمهزومَين
وبعد هذا الغطاء الأحادي ل"السلاح" ذهب "الحزب" بعيداً في فرض سيطرته على الدولة، فسلبها أعزّ ما لديها وهو قرار الحرب والسلم، واستباح سلمها الأهلي وحكوماتها ومؤسساتها بسطوة سلاحه، وصولاً إلى التورّط في حرب سوريّا وسواها، ف"حرب الإسناد" الكوارثية.
وإذا كان المؤمن لا يُلدغ من الجحر نفسه مرّتين، فعلى الحزب "المؤمن" ألّا يكرّر هدر الفرصة مرة ثانية، خصوصاً أنه لا يحظى اليوم بما حصل عليه قبل 19 سنة من طرف يغطّي سلاحه في كل وظائفه الداخلية والخارجية.
ولا شكّ في أن إنكاره العلني لما حلّ بسلاحه يقابله اعتراف ضمني بالحال التي آل إليها، وباستحالة إعادة إنتاجه وترميمه بعدما أُقفلت في وجهه الحدود بفعل مندرجات اتفاق وقف إطلاق النار وانقلاب الوضع السوري.
حتى لو قرأ الاتفاق على سجيّته بأنه انسحاب فقط من جنوب الليطاني، فإن سلاحه لا يعود له وظيفة فعلية وهو مفصول جغرافياً عن الحدود وعن المشجب الذي علّق عليه مقاومته، أي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
ويتحوّل السؤال في شمال الليطاني عن دور السلاح من النبطية وصيدا وجزين إلى بيروت والضاحية والبقاعَين الغربي والشمالي وسائر قرى انتشاره في جبل لبنان والشمال، طالما أنه محظور، وقد سلّم بهذا الحظر، في مناطق التماس مع إسرائيل.
الفرصة التاريخية هي إذاً أمام "حزب الله" و"الثنائي" قبل سواهما، بعدما اتضح عدم وجود قوى سياسية تسعى للتعامل معهما كمهزومَين، أو تبادلهما بمنطق الغلبة.
غير أن الفرصة تفرض أن يتصرّف الجميع وفق أحجامهم الحقيقية، وأن يقطعوا مع مرحلة التفرّد والتفوّق والاستئثار، ويدخلوا في شراكة وطنية متوازنة، وعلى أسس مختلفة عن الإدارة السابقة للبنان والتي أنهكته سياسياً واقتصادياً ومالياً، وغرّبته عن ذاته كرسالة إنسانية ونموذج حضاري للتفاعل بين الثقافات والحضارات.
طبعاً، لبنان أمام فرصة إستثنائية، واللبنانيون أمام اختبار تاريخي كي يستحقّوه.
ولا يمكن أن تكون فرصة حقيقية إذا ظلّت مركّبات الماضي، ولاسيما مركّب الغلبة بالسلاح وعقدة الانتصار، متحكّمة بالنفوس والإرادات، فلا خلاص إلّا بالقطع الكامل مع المرحلة السوداء المنقضية بما فيها من أخطاء وخطايا ومآسٍ.