استعصاء إصلاح "النموذج" الاقتصادي بالطرائق التقليدية، يدفع الاقتصاديين والخبراء إلى إخراج ما في جعبتهم من أفكار ثورية للخروج من الإنهيار وضمان عدم تكراره. فالمعالجات السابقة بدءًا من باريس 1، 2، و3، مرورًا بـ "سيدر"، وصولًا إلى الاتفاق المبدئي على صعيد الموظفين مع صندوق النقد الدولي، لم تشفِ الاقتصاد. وقد اشتركت جميعها في اشتراط إقرار القوانين الإصلاحية العامّة التي تُبقي القديم على قدمه مع القليل من "التبرّج" مقابل التمويل. وعلى الرّغم من وعي المانحين الدوليين أنّ المنظومة انتهجت حتى باريس 3، الحصول على الأموال وإهمال تطبيق الإصلاحات، فقد ظلّوا مؤمنين بإمكان تطبيق القوانين في حال التشدّد في التمويل. وهذا لم يحصل، ولن يحصل بدليل تفويت فرصة الاتفاق مع صندوق النقد.
من بعد ما استعرضنا في الجزء الأول، فكرتي إعادة هيكلة المصارف على أساس القاعدة الرأسمالية بما يعني تصفية جميع الأصول المصرفية لسداد الودائع، وإجبار المصارف التي ترغب في الاستمرار على زيادة رأسمالها. واستخدام الاحتياطات من الذهب، وتصفية الأصول العقارية والمشاركات لمصرف لبنان من أجل سداد الودائع. سنستعرض في الجزء الثاني والأخير، أفكارًا متعلّقة بـ : إلغاء الليرة اللبنانية، ودولرة الاقتصاد بشكل كامل، والتحوّل إلى التقاعد بنظام توزيع تحديد سقف الاشتراكات وللمعاشات التقاعدية ومنح إعفاءات ضريبية للاشتراك في برامج تقاعد خاصة، وتخفيض الضرائب المباشرة على الأرباح والرواتب.
الدولرة
انطلاقًا ممّا تقدّم، كانت مشكلة المشكلات بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني وجود عملة محلية عاجز عن حمايتها، وإن فعل فبكلفة باهظة جدًا. وعليه، فإنّ الحلّ هو "الانتقال إلى الدولرة"، برأي رئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي. وتتمّ هذه العملية إمّا من خلال "صندوق تثبيت القطع"، المعروف بـ "مجلس النقد" (currency board)، أو من خلال الدولرة الشاملة ووقف التعامل بالليرة اللبنانية. ذلك أنّ الأخيرة فقدت جميع وظائفها بكونها عملة. فلم تعد وسيلة للتبادل في ظلّ ارتفاع نسبة الدولرة في الاقتصاد إلى أكثر من 90 في المئة، ولا وسيلة لتسديد الرواتب لأنّ المداخيل في القطاعين العام والخاص تسدّد بالدولار. كما لم تعد الليرة وسيلة لحفظ القيمة ولا أداة للادخار. والمستهلكون يعتمدون على الدولار لتقييم الخدمات والأسعار والادخار.
على الرّغم من كون الحديث عن إلغاء الليرة يثير "نقزة"، ويستفز الشعور الوطني انطلاقًا ممّا حفظناه من شعارات كـ "عملتنا كرامتنا"، و"رح يجي نهار ترجع الليره تحكي"، فاقتصاديًا ومنطقيًا أصبحت الليرة حملًا ثقيلًا جدًا على الاقتصاد. ولكلّ "الغيارى" على الليرة من باب الكرامة الوطنية والسيادة بإمكاننا أن ننشئ "مجلس تثبيت القطع" (currency board)، برأي رياشي. وهكذا تبقى الليرة موجودة، إنّما يصبح حجمها مرتبطًا بمخزون الدولار المتوفّر أو الموجود. وإذا لم يرتفع مخزون الدولار، لا نطبع المزيد من الكميات من الليرات.
لعلّ هذا الإجراء الجذري في النظام النقدي قد يكون الأكثر رفضًا من قبل المنظومة، حتّى أنّه يتقدّم بالرفض على مطلب اعتماد "التسلسل الهرمي للمطالبة" الذي تحدثنا عنه في الجزء الأول. فمن شأن اعتماد الدولرة، الحدّ من قدرة السلطة على تمويل القطاع العام من دون حسيب أو رقيب، وإقرار السلف، والاستدانة كما كان يجري سابقًا. إذ ببساطة، لن يكون باستطاعة المركزي طبع الليرات. ومن شأن الحد من تمويل القطاع العام، تصغير حجمه وفقدان السياسيين القدرة على الاستفادة من المرافق العمومية في التوظيف والصفقات. الأمر الذي يقصيهم عن "جنّة" القطاع العام، ويحدّ من قدرتهم على كسب الأصوات في الانتخابات من الاستزلام والمنافع، والعودة مرارًا وتكرارًا إلى مقاعد السلطة، سواء كان في الحكومة أو في مجلس النواب. ومن الطبيعي أن يواجه المطلب بدولرة الاقتصاد بالرفض القاطع، ليس حرصًا على السيادة الوطنية، إنما حماية للمصالح السياسية لمختلف القوى والأحزاب.
النظام التقاعدي بدلًا من تعويض نهاية الخدمة
من الإصلاحات المطلوبة أيضًا يبرز "تحویل تعويضات نهاية الخدمة إلى راتب شهري تقاعدي، والتحول إلى التقاعد بنظام توزيع تحديد سقف الاشتراكات وللمعاشات التقاعدية، ومنح إعفاءات ضريبية للاشتراك في برامج تقاعد خاصة"، يضيف رياشي. "فهناك مشكلة كبيرة جدًا في ما يتعلق بتعويضات نهاية الخدمة، ستنفجر عاجلًا أم آجلًا. ففقدان الاشتراكات المسددة بالليرة المتراكمة شهرًا بعد آخر على مدار السنوات الماضية لقيمتها بسبب انهيار سعر الصرف، سيحمّل الشركات عبء تسديد فرق التعويضات مع سعر الصرف الجديد. الأمر الذي سيدفع إلى إفلاسها. يضاف إلى ذلك صدور قانون يقرّ بتجميد احتساب التعويضات في العام 2023، بينما يصدر قانون يوضح البديل الذي سيعتمد". ومن الأفضل، برأي رياشي، "تحويل التعويضات إلى معاش تقاعدي. وبدلًا من أن تسدد الشركات المبالغ دفعة واحدة تقسطها على مدار بضع سنوات من خلال الاشتراكات الجديدة المقوّمة على سعر الصرف القائم. وذلك على غرار المعتمد في العديد من الدول، منها فرنسا على سبيل المثال". صحيح أنّ هذه الطريقة ترفع الاشتراكات على الشركات، إلّا أنّها تحميها على الأقل من الإفلاس. وإذا لم يكن الراتب التقاعدي كافيًا لبعض الأشخاص مقارنة بمستوى معيشتهم، بإمكانهم الاشتراك في صندوق رأسمالي، تضاف إليه مساهمة الشركات، يدار من مصارف، أو مؤسسات مالية أو شركات تأمين...، يدفع لهم الراتب التقاعدي.
في حال اعتماد النظام التقاعدي بمساهمة من الشركات في الصناديق الرأسمالية، يجب على الدولة ملاقاة القطاع الخاص و"منح إعفاءات ضريبية على الاشتراك في البرامج التقاعدية، وتخفيض الضرائب المباشرة على أرباح الشركات إلى 10 في المئة"، برأي رياشي، "لتمكينها من إدارة هذه العملية الفائقة الأهمية في الحماية الاجتماعية. والتي هي أساسًا يجب أن تكون من مسؤولية الدولة".
الأفكار كثيرة ومفيدة، لكن العبرة في نهاية المطاف تبقى في التنفيذ. وما لم تكسر "الحلقة المفرغة" التي دخلها الاقتصاد اللبناني، فإنّ الأزمة الحالية لن تطول فحسب، بل ستتجدّد كلّ بضع سنوات، وهذا أكثر ما يُفقد الثقة، ويهشّل الاستثمارات، ويلبث الاقتصاد في دائرة الفقر والانكماش.