"أقصى تمنياتي ألّا يعتقد معتقد في لحظة من اللحظات بأنّ الله قد مات، أو بأنّه لا يتدخل في التاريخ. فآثار وبصمات لمساته، ظاهرة، واضحة، جليّة على كلّ مفترق من مفترقات أيّامنا. وأيًّا يكن الأمر، فكلّي إيمان لا بل أعمق وأبعد من الإيمان بعد، بأنّه مهما تكن الطريق طويلة صعبة شاقة ومتعرّجة، ففي نهاية المطاف لن تكون إلّا مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض"، إنّه فعل إيمان تلاه سمير جعجع في 27 نيسان 1999 خلال مرافعته أمام المجلس العدلي. يومذاك كان جعجع محكومًا عليه بالمؤبد، وكان إحكام سيطرة رئيس النظام السوري حافظ الاسد على لبنان في أوجه، ولا بصيص أمل بجلائه عن لبنان في أمد منظور.
فعل الإيمان هذا شكّل ركيزة مقاربة جعجع للأمور، وهذا ما يجعل مواقفه وقراراته وخطواته السياسية تتخطّى أحيانًا الحسابات البشرية وموازين القوى الآنية وتحمل نفحة إيمانية. فهو كان حاضرًا منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السلمية في سوريا في 15/3/2011 إذ جاهر بتأييد هذه الثورة وتشبّثه بحتمية سقوط نظام بشار الأسد. أمّا فريق "محور الممانعة" في لبنان وجمهوره فتنمّروا على جعجع وتهكّموا على موقفه هذا.
رغم ذلك، بقي جعجع متمسّكًا بموقفه بغضّ النظر عن الكبوات التي أصابت هذه الثورة والترنّح الذي مرّت به. حتّى حين كان جميع العرب يشرّعون أبواب جامعتهم لعودة الأسد في 7/5/2023 أو حين زار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان دمشق رسميًا في 18/4/2023 بعد قطيعة منذ انطلاق الثورة، ورغم تهليل أصدقاء سوريا بعد ذلك، وعقب اتفاق "بكين" والتقارب السعودي - الإيراني وإعلانهم انتصار "محور الممانعة"، ظلّ جعجع ثابتًا في مقاربته. سار عكس "التيار" وأطلّ معلنًا أن "الأسد جثة سياسية".
مع فجر 8 كانون الأول 2024 وسقوط نظام آل الأسد الذي انطلق منذ 1971، حلّت الفرحة في صفوف القواتيين وعدد من اللبنانيين وعمّت الاحتفالات مناطق عدة. نخب المناسبة رُفع في معراب حيث كرّر جعجع فعل إيمانه مضيفًا: "ما نراه في سوريا ليس لا سياسة ولا عسكر، إنّما مشيئته، وهذا الكلام ردّدته تحت الأرض واستمرّرت بالإيمان به، فكما تحت الأرض كذلك فوقها. ومع اندلاع الثورة السورية آمنت به أكثر فأكثر، واستمرّ هذا الإيمان حتى عندما خمدت الثورة السورية، وكنت أعي أنّ استمرار الأسد مستحيل، واستمرّرنا كقوات بالمواجهة حيث لا يجرؤ الآخرون (...) استمرّرنا حتّى رأينا حلمنا يتحقّق، وبالتالي لا يصحّ إلّا الصحيح".
مع طي حقبة ما كان يسمى وفق النظام "سوريا الأسد" - فيما هي في الحقيقة حقبة "ابتلاع الأسد لسوريا" - أكّد مصدر قواتي لـ"الصفا نيوز" أنّ سلسلة أهداف تحقّقت:
أ- سقوط النظام الديكتاتوري الذي عاث فسادًا وإجرامًا في لبنان كما في سوريا وساهم في عرقلة مسيرة العبور إلى الدولة. لقد واجهته "القوات" منذ نشأتها قبل نحو نصف قرن ودفعت فاتورة باهظة في سبيل ذلك، إذ قدّمت الشهداء ليس في زمن المواجهة العسكرية فحسب، بل أيضًا في زمن المواجهة السلمية إلى جانب المعتقلين في "جهنم" سجونه. كما اعتُقل قائدها سمير جعجع 4114 يومًا انفراديًا في زمن النظام الأمني اللبناني – السوري واضطُهد وسُجن المئات من كوادرها وتمّ حلّها كحزب.
ب- قطع أوصال محور الممانعة وسقوطه عمليًا عبر قطع طريق الإمداد والتواصل بين "الحزب" وإيران مرورًا بسوريا، وإخراج الإيرانيين وميليشياتهم و"الحزب" منها. الأمر الذي يساهم في تجفيف ليس سلاح "الحزب" فحسب، بل أيضًا مداخيله المالية الآتية من طهران أو الناجمة عن استغلال الحدود بمعابرها الشرعية وغير الشرعية لممارسة عمليات التهريب والتهرّب من دفع المستحقّات الجمركية والضريبية.
ت- إطاحة نظرية "حلف الأقلّيات" بالضربة القاضية بعدما عمل عليها نظام آل الأسد من أجل زرع الشقاق بين المكونين المسيحي والمسلم في لبنان. فهو حاول مطلع تسعينيات القرن الماضي إقناع "القوات" بها بالترغيب أولًا. لكن مع رفض جعجع ذلك خلال الاجتماعات والموفدين بين الجانبين، انتقل إلى الترهيب. لم ييأس نظام الأسد إذ أعاد الكرة حين كان جعجع في المعتقل عبر إرسال موفدين وبعض المسؤولين القواتيين إلى زنزانته لإقناعه بذلك. كما لعب هؤلاء على الوتر العاطفي لدى الجمهور القوّاتي مروّجين أنّ حلفًا كهذا بإمكانه وحده إخراج جعجع المحكوم بالمؤبّد من سجنه ووقف اضطهادهم وتأمين الحماية والامتيازات للمسيحيين.
لاحقًا، نجح نظام الأسد في ضمّ الجنرال ميشال عون وتياره إلى هذا الحلف إذ بدأ التفاوض معه منذ العام 2003 حين كان في منفاه الباريسي من خلال المحامي فايز قزي. ثم كرّت سبحة الموفدين بين الطرفين وأفضت إلى تسهيل عودة عون إلى بيروت وصولًا إلى تتويج هذا المسار بزيارته سوريا التي قدم إليها على متن الطائرة الخاصة للرئيس بشار الاسد في 3/12/2008.
رفضُ "القوات" لحلف الأقليات كان نابعًا من إيمانها بأنّه يضرب الشراكة الوطنية من جهة، ويستبدل معادلة الحفاظ على الدور والوجود التي تحرص عليها للمكون المسيحي، وتاليًا لجميع المكونات، بربط الوجود بحلف مصطنع غير قابل للحياة وتسخير الدور لحماية نظام الأسد من جهة أخرى.
يسأل كثيرون اليوم كيف ستتعاطى "القوات" مع "سوريا الجديدة"، وهل تستثمر مواجهتها للنظام السوري من دون هوادة أو تراجع أو اعتبار "لحظة تخلٍّ"، وهل ستفيد من انتصار "الثورة السورية" التي أيّدتها منذ اللحظة الاولى بلا كلل ولا ملل.
"القوات اللبنانية" تنظر إلى تكرار التجربة مع سوريا
المصدر القواتي يجزم بأنّ "القوات" لا تسعى إلى أيّ استثمار شخصي، وغير معنية بشكل النظام الذي قد يقوم في سوريا، بل كلّ ما يعنيها قيام دولة فعلية إلى جانب لبنان:
أ- لا تنتهك سيادته وتطمع بثرواته خصوصًا النفطية بحرًا بل تعمل جديًا على ترسيم الحدود البرية والبحرية بشكل نهائي معه.
ب- تحترم علاقات حسن الجوار وتقيم علاقات ديبلوماسية جدية ولا تتحول سفارتها إلى وكر للتدخل بشؤون لبنان الداخلية.
ت- تعالج بشكل جديّ وعلمي ملف المعتقلين في سجون نظام آل الأسد لجلاء مصيرهم أحياء كانوا أو أمواتًا.
ث- منفتحة على إزالة رواسب هيمنة نظام آل الأسد على لبنان عبر إعادة النظر في الاتفاقات الثنائية وإلغاء ما يجب إلغاؤه، وحلّ بدعة المجلس الأعلى اللبناني – السوري. فلطالما دعت "القوات" إلى ذلك ويكفي التذكير بمطالبه الوزير القواتي د. ريشار قيومجيان في شباط 2019 خلال جلسة مجلس الوزراء بإلغاء هذا المجلس وقوله: "أنا مؤمن بالأعاجيب ولكن مشهد استنهاض نصري الخوري وتنسيقه مع الوزراء واستحضار المجلس الأعلى اللبناني - السوري ليس من عمل الله بل من عمل الشيطان". الأمر الذي أثار حفيظة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي كان يترأس الجلسة ومعظم المشاركين.
ج- لا تعمد إلى بثّ الموبقات الفكرية كـ"حلف الأقليات" و"وحدة المسار والمصير" و"شعب واحد في بلدين".
يختم المصدر القواتي: "لا أعداء بالمطلق ولا حلفاء بالمطلق، فموقفنا من أيّ طرف مرتبط بمعيار احترامه سيادة لبنان ومصالح شعبه. أثبتت الوقائع أنّنا غير عنصريين بحقّ الشعب السوري، ولكننا كنّا رأس حربة في وجه نظام الأسد الفاجر. علاقتنا مع سوريا الجديدة ستكون كعلاقاتنا مع سائر الدول العربية القائمة على الصداقة تحت سقف الدولة اللبنانية واحترام هذه الدول".
بعد حرب دموية شرسة مع الميليشيات الفلسطينية على الأرض اللبنانية لقطع الطريق على إقامة وطن بديل في لبنان، وبعد انسحاب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ومسلحيه من لبنان، عادت "القوات" وفتحت خطوطًا معه عام 1987 تحوّلت الى علاقة صداقة قائمة على تأييد "القوات" لأحقّية القضية الفلسطينية ودعمها، لكن على أرض فلسطين لا لبنان، ورفض التدخل الفلسطيني بشؤون لبنان وانتهاك سيادته الجغرافية والسياسية. اليوم، "القوات اللبنانية" تنظر إلى تكرار التجربة مع سوريا وفق هذه المقاربة السيادية لما فيه مصلحة الدولتين والشعبين.