في زلزال كبير حصل، فقد انهار النظام السوري بعد نحو 14 عامًا من شنّ الحرب عليه. وانتشرت تفسيرات وتأويلات كثيرة يرقى بعضها لأن يكون جزءًا من سيناريوهات لمسلسلات أكثر منه قراءة موضوعية في ما حصل. 

لكن عوامل الانهيار التي حصلت تعود إلى العام 2018 حين وُضع سيناريو إسقاط سوريا بالتجويع بعدما تعذر إسقاطها بالسلاح. سياسة التجويع والحصار هذه تمّت في زمن ولاية دونالد ترامب الأولى، بتعاون عربي وتركي، في ظلّ عدم مبادرة الحلفاء الروس والإيرانيين إلى مدّ يد العون الاقتصادي لدمشق. هذا جعل الحاضنة الشعبية للنظام السوري تضعف وتنفضّ من حوله، على إثر اضطرار النظام للجوء إلى رجال أعمال يتصرّفون كالمافيات بغية الالتفاف على العقوبات لمصلحة تأمين المواد الأولية والقطع الأجنبي للبلاد. 

كان الأسد يقاتل بغية استعادة السيطرة على الموارد والأرض، التي كان قسم كبير منها واقعًا تحت السيطرة الأميركية في شرق الفرات، وذلك من أجل مواجهة حالة التجويع التي فرضت على الشعب السوري وساهمت إلى حد كبير في نضوب الموارد وترهّل المؤسسات،. هذا ما أدّى إلى صعود طبقة من الأثرياء الجدد واستشراء الفساد والفوارق الطبقية. في ظلّ هذه الأوضاع مُدّت اليد العربية لبشار الأسد فرحّب بها على أمل فكّ الحصار الاقتصادي المضروب على سوريا. وهذا يفسّر التقارب بين دمشق وأبو ظبي والرياض. وعلى الرّغم من ذلك، ومنذ إعادة انتخابه عام 2021 كان بشار الأسد يعلم أنّه لا يمكنه التعويل على أحد في ظلّ منع الولايات المتحدة لدول الخليج من تقديم أيّ عون. وهذا ما دفعه إلى رفع شعار الأمل بالعمل، أي بالاعتماد على الذات، لكن في ظروف صعبة جدًا. 

وقد شكّلت معركة طوفان الأقصى الفصل الأخير في صراع النظام من أجل البقاء. إذ خاب أمل الداعمين للقضية الفلسطينية، ومن ضمنهم بشار الأسد، بإمكانية تحويل الأنظار إلى القضية الفلسطينية وفكّ الحصار عن سوريا. وقد عبّر بشار الأسد عن خيبته في خطاب وجهه للجنة المركزية لحزب البعث قال فيه إنّ "ما حصل في اليمن وغزّة درس خصوصًا للسوريين". لذا لا يمكنهم إلّا الاعتماد على أنفسهم، في تعبير عن خيبته من الأصدقاء قبل الأعداء بعدما حُجب الدعم الاقتصادي عن بلاده. وقد شكّلت معركة طوفان الأقصى مرحلة تعرّضت فيها سوريا للضغوط من الأصدقاء للانخراط في المعركة، وهو ما رفض القيام به بسبب عدم ثقته بالإخوان المسلمين الذين تنبثق حماس منهم، كما أنّه رفض المطالب الروسية بالانفتاح على الرئيس التركي لأنّ من شروط الأخير فدرلة سوريا وتقسيمها عمليًا إلى مناطق نفوذ. 

شكّلت معركة طوفان الأقصى الفصل الأخير في صراع النظام من أجل البقاء.
وقبل أيام من انعقاد القمة العربية الإسلامية الثانية في 11 تشرين الثاني 2024، أجرى الأسد مشاورات مع فريقه الخاص. وكان واضحًا أنّ السعوديين يسيرون باتجاه "حل الدولتين" في فلسطين بغية التوصل إلى تسوية في المنطقة بما يناسب رؤية محمد بن سلمان للتنمية الاقتصادية في المملكة. وقد رفض الأسد هذه المبادرة، وهذا ما جعله يخسر دعم السعودية والإمارات. وبعد عودته إلى سوريا كان الأسد في مواجهة مطالب روسية إيرانية بالتطبيع مع تركيا وهو ما رفضه، كما أنّه كان أمام مطالب إماراتية – سعودية بدعم المبادرة السعودية لتسوية يراها على حساب القضية الفلسطينية، وهو ما رفضه أيضًا، وهذا جعله معزولًا تمامًا قبيل شن الهجوم الأخير عليه. 

في الوقت الذي كان الأسد يواجه عزلة غير مسبوقة قلّلت من قدرته على المناورة، وصلته معلومات عن نيّة إسرائيل تحريك جبهة الجولان بالتوازي مع تحريك غرفة الموك بتعاون من الموساد والمخابرات الأميركية والأردنية مع الجماعات المسلحة للهجوم في الجنوب. وفيما كان نظره متجهاً نحو جبهة درعا تمّ الهجوم الرئيسي عليه من الشمال بتنسيق بين تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، بعدما خدعت أنقرة موسكو موهمة إيّاها أنّها كانت لا تزال تريد عقد لقاء بين إردوغان والأسد. 

وحين بدأت الهجمات المنسّقة على ريف إدلب وحلب كان بشار الأسد في موسكو لحضور حفل تخرّج ابنه في الجامعة. فطلب لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولقاءات أخرى مع رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف. وفيما كان يعقد اجتماعاته في موسكو كان وضع الجبهة ينهار في ظلّ تواطؤ بين بعض ضباط الجيش مع أجهزة استخبارات قطرية وتركية، وهذا ما جعل الوضع العسكري غير مستقرّ مع وصول الجماعات المسلّحة إلى أطراف حمص. عندئذ تبيّن أنّ الوضع قد قضي، وأنّ الهجمات الجوية الروسية لن تغيّر شيًئا، وأنّ تدخّلًا بّريًا إيرانيًا لن يقلب الأمور، في ظلّ عدم رغبة القوات السورية بمواصلة القتال وسط وجود شروخ كبيرة في صفوفها. هذا كله جعل النظام ينهار لتدخل الجماعات المسلّحة المدعومة من قطر وتركيا إلى دمشق من دون قتال.