لم تنته الحرب بعد، فما شهده لبنان ولا يزال كان جزءًا من الحرب الإقليمية والعالمية التي تتوالى فصولها، وها قد بدأ الجزء الثاني منها في سوريا ولاحقًا العراق والأردن ودول الخليج واليمن وصولًا إلى إيران، فضلًا عن الحرب المفتوحة والمستمرة على قطاع غزة والضفة الغربية، في الوقت الذي بدأ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ترسيم حدود إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، وقد قضم مزيدًا من أراضي سوريا في الجولان وجبل الشيخ (أو جبل حرمون) وصولًا إلى مسافة 50 كيلومترًا من دمشق.

لذلك ينتظر الجميع ما سيرسو عليه الوضع الجديد في سوريا بعد سقوط النظام، ومعرفة ما سيكون عليه النظام الجديد شكلًا ومضمونًا بعد التصفيات النهائية. هذه التصفيات التي ستنشأ من الغربلة التي ستحصل للقوات التي شاركت في إسقاط النظام في ظلّ سؤال: هل سينشأ فيها حكم شراكة بين هذه القوى أم أنّ فريقًا سيقصي الآخرين ويتفرد بالسلطة؟ أم أنّ الأمر سيفشل لتسود البلاد السورية قوى متناحرة، وبالتالي انعكاس ذلك على كلّ دول الجوار السوري بما فيها لبنان.

من الواضح حتّى الآن أنّ الفاعل على الأرض السورية هو الجانب التركي، الذي عاد إلى سوريا والمنطقة بعد غياب دام منذ سقوط السلطة العثمانية عام 1918 من القرن العشرين، إلى درجة أنّ البعض ذهب إلى القول إنّ حدود تركيا صارت على حدود لبنان الشمالية والشرقية وعلى حدود الأردن والعراق من الجهة السورية، خصوصًا بعد ذهاب بعض المسؤولين الأتراك إلى اعتبار الموصل وحلب والرقّة وما حولها أراضي تركية. أمّا الجانب الأميركي فهو الآخر كان ولا يزال حاضرًا في الأرض السورية في شرق الفرات وغربه، وكذلك في إدارة اللعبة السياسية العسكرية لأن ليس هناك من أحد غير مقتنع بأنّ إسقاط النظام السوري ما كان ليتم لو لم يكن هناك اتفاق أميركي ـ تركي وربما إسرائيلي. بل يتوسّع البعض إلى القول إنّ صفقة حصلت بين اللاعبين الكبار على الساحة السورية، أي روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، تم خلالها اقتسام "المغانم" على حساب النظام، لكن صحّة حصول هذه الصفقة من عدمها ستكشفها التطورات التي ستشهدها سوريا والمنطقة في قابل الأيام، بل ستكشفها طبيعة التركيبة التي ستحكم سوريا المدمرة والتي أجهزت إسرائيل على ما تبقى من مقومات الدولة فيها، بحيث أنّها دمّرت الجيش السوري بكلّ ما يملكه من قواعد عسكرية وقوات جوية وبرية وبحرية ومراكز علمية ومطارات وطائرات وأسطول بحري وغيره.

ومن الواضح، حسب أوساط ديبلوسية، أنّ تركيا وضعت يدها على سوريا عبر "هيئة تحرير الشام"( جبهة النصرة سابقاً) بزعامة أحمد الشرع المعروف بـ"أبي محمد الجولاني"، وهي القوة الأكبر على الأرض بين بقية القوى المسلّحة، وتتولّى أنقرة إدارة الوضع السوري بواسطة مدير مخابراتها إبراهيم كالين ووزير خارجيتها حقان فيدان ( مدير المخابرات السابق) اللذين كانا أول زائرين لدمشق ومسجدها الأموي بعد سقوط النظام، بغية ترتيب السلطة السورية الجديدة بحيث ستكون على الأرجح مستنسخة عن النظام الإخواني الذي يحكم تركيا برئاسة الرئيس رجب طيب اردوغان. وهي سلطة يكون عمادها الاقتصاد أولًا والسياسة ثانيًا بعيدًا من أيّ حروب مستقبلية مع الآخرين بمن فيهم إسرائيل. ولكن هذا النظام سيكون خاضعًا للاختبار حتى لا يكون مصيره كالتجربة الإخوانية المصرية برئاسة محمد مرسي التي أسقطها الرئيس عبد الفتاح السيسي. فإن تكرّرت فسيُفتح المجال أمام دول كثيرة للتدخل في الشأن السوري، للدفع في اتجاه إقامة نظام آخر يقوده ضابط كبير من الجيش السوري المنحلّ يكون "سيسي سوري" إذا جاز التعبير، فيكون هذا النظام متنوع التركيبة خصوصًا أنّ الشعب السوري متنوع الانتماء السياسي والطائفي وربما يلعب المال دورًا مهمًا في صناعة مثل هذا النظام الذي يستفيد من عدّة النظام السابق في مختلف الإدارات والمؤسسات، مشفوعًا بعدّة إضافية جديدة تفرضها طبيعة المرحلة، فكل مؤسسات الدولة السورية لا تزال قائمة باستثناء المؤسسة العسكرية التي دمّرتها إسرائيل وينبغي إعادة بنائها على أسس جديدة.

وغالب الظنّ أنّ تركيا ستعمل بكلّ قوة لإرساء نظام سوري شبيه بنظامها، على اعتبار أنّ الفرصة المتاحة لها الآن قد لا تتكرّر، وهي تعرف أنّ الفشل هنا سيكون قاتلًا مثلما حصل لها في مصر محمد مرسي. كذلك سيدفع هذا الفشل السوريين إلى اعتماد خيارات أخرى ما يفلت الزمام من يدها، وقد تدخل سوريا في حرب أهلية تخسر فيها كلّ شيء مثلما سيخسر الآخرون.

ويقول ديبلوماسيون في معرض شرح أسباب انهيار النظام إنّ الروس ربما يكونون هم من أقنع الرئيس بشار الأسد بالخروج بالطريقة التي خرج بها، مع احتفاظهم بقاعدتيهما العسكريتين البحرية في طرطوس والجوية في حميميم. مع العلم أنّه كان بإمكانه أن يخرج بالطريقة التي تحفظ الدولة ومؤسساتها وقدراتها العسكرية وغير العسكرية. ولكن مع ذلك فإنّ إيران حصلت من الاتراك، حسب هؤلاء الديبلوماسيين، على ضمانات تتعلّق بأن تبقى سوريا موحّدة وأن لا تتعرض السلطة الجديدة فيها للأقليات السورية ولا للمقامات الدينية.

وماذا عن لبنان؟

المطّلعون على الموقف الأميركي يجيبون أن ليس هناك أيّ ضمانات أميركية في أنّ القوى التي استولت على السلطة لن تتدخل في الشأن اللبناني الداخلي، وأن لا تحاول الانتقام من حزب الله وكلّ من دعم النظام السابق، وذلك على الرغم من أنّ الأميركيين يحرصون على أن يكون لهم لبنان بمفردهم ولا يشاركهم النفوذ فيه أحد، ولكنّهم قد يغضون الطرف عن "غزوة ما" يمكن أن يتعرض لها حزب الله الذي تصنّفه واشنطن "منظمة إرهابية".

المخاطر الداخلية في لبنان ستكون عنوان المرحلة

إلّا أنّ ثمّة مؤشّرًا إيجابيًا برز من زعيم قوى المعارضة المسلّحة السورية أحمد الشرع، عندما أعلن أنّه يؤيّد انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ولكنّه لن يتدخل في شؤون لبنان. وفي هذا السياق تكشف مصادر الديبلوماسية أنّ كلام الشرع مردّه إلى ضمانات حصلت عليها إيران من تركيا بعدم محاولة قوات السلطة السورية الجديدة الدخول إلى لبنان وأيّ بلد مجاور آخر لسوريا مثل العراق وغيره أيضًا. ولكن وعلى الرغم من ذلك تقول المصادر إنّ الوضع اللبناني مرتبط جدًا بالوضع السوري والمتغيّرات التي يشهدها حاليًا وتلك التي سيشهدها لاحقًا، لجهة كيف سيكون نموذج السلطة السورية الجديدة على الطريقة اللبنانية (طائف سوري) أو النموذج التركي أو العراقي أو الليبي. لكن التعليمات التركية للسلطة الجديدة تركّز على أن تكون سوريا موحّدة جغرافيًا، ومن ضمنها المنطقة الكردية التي تشكّل حساسية كبيرة لأنقرة، فسوريا الموحّدة قد تنهي هذه الحساسية وتضع حدًا للحلم الكردي بإقامة دولة كردية تشكّل منطقة عازلة بين سوريا وتركيا والعراق وإيران.

لكنّ المصادر الديبلوماسية نفسها تؤكّد أنّ الأميركيين اتخذوا قرارًا لا رجوع عنه، ويقضي بإقامة دولة كردية في إطار الشرق الأوسط الجديد الذي تعمل إسرائيل على رسم حدوده بالنار هذه الأيام.

على أنّ المصادر تعتقد أنّ المخاطر الداخلية في لبنان ستكون عنوان المرحلة، سواء في موضوع إعادة إعمار ما هدته إسرائيل في عدوانها الذي لم ينته بعد، أو في مجال ترتيب الوضع السياسي بإقامة سلطة جديدة بدءًا بانتخاب رئيس جديد، أو في مواجهة مخاطر عسكرية على جبهة الجنوب التي تمددت ووصلت إلى البقاع، فضلًا عن مواجهة أيّ تهديدات على الحدود الشرقية الشمالية في حال تحرك قوات من السلطة السورية الجديدة في اتجاه لبنان.

واللافت أيضًا، في رأي هذه المصادر نفسها، هو موضوع النازحين السوريين الذين كان يفترض أن يهبّوا للعودة إلى بلادهم فور سقوط النظام الذي كان موضع شكوى لديهم، مثلما حصل الأمر بعودة المواطنين اللبنانيين إلى بلداتهم وقراهم فور توقف العدوان الإسرائيلي، الأمر الذي لم يحصل في حالة النازحين السوريين. بل إنّ نزوحًا سوريًا جديدًا إضافيًا حصل، وهذا ما يدلّ إلى أنّ هذا النزوح هو نزوح اقتصادي وليس سياسيًا، وبالتالي لا شيء سيمنع النازحين من أن يقولوا إنّهم ضد النظام الجديد، وبالتالي لا يمكنهم العودة إلى العيش في كنفه والتعرض للاعتقال، تمامًا كما كانوا يتذرّعون أيام النظام السابق لعدم العودة إلى سوريا خشية من "بطشه" بهم، هو ما سيجعل قضية النازحين وما تسببه من استنزاف للبنان قضية مستدامة.