بعد خمسة أسابيع يسلّم الرئيس جو بايدن خلَفه – وسلَفه – الرئيس دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض. يعرف بايدن أنّ ترامب سيشطب الكثير من سياساته التي أقرّها بمراسيم تنفيذية، ويعرف ترامب أن مؤيّديه يريدونه أن يغيّر الكثير من السياسات وأن يتصرّف وفقاً لما تمليه صورة القوة والمباغتة التي اشتهر بها والتي جعلت زعماء العالم يحسبون له الحسابات.

التغيير الذي وعد به ترامب يشمل السياسات الداخلية، بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والاستثمار... وكذلك الخارجية، ولا سيّما دور الولايات المتحدة في العالم وعلاقاتها مع الحلفاء وموقفها من الدول التي تناصبها الخصومة.

المشكلة هي أنّ ما يريد ترامب تحقيقه في السياسة الخارجية هو التوفيق بين المتناقضات. على سبيل المثال، يريد الانتهاء من مشكلة الشرق الأوسط ومن الحروب والتوتر فيه، ويعلم في الوقت نفسه أن الحلول المطروحة لا تلبّي رغبات كل شعوب المنطقة ودولها. هي تؤمّن مصالح دول وشعوب، وتتنكر لمصالح دول وشعوب أخرى. في الفترة الرئاسية الأولى، لم يرَ ترامب سوى مصالح إسرائيل ودفع إسرائيل وعددا من الدول العربية لتوقيع اتفاقات إبراهيم، وتجاهَلَ حقوق الشعب الفلسطيني بحيث أنه قارب الموضوع الفلسطيني من زاوية تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية متناسيا الحقوق السياسية والمدنية.

على سبيل المثال أيضاً، يريد ترامب إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وتردّد أنه قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي حين التقاه إنه لن يستطيع التغلب على روسيا ولن يتمكن من استرداد الأراضي التي خسرها. هل المقصود كل الأراضي التي احتلتها روسيا أم بعضها؟ وتردّد أيضاً أنه قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتن إنه لن يتمكّن من أن يتقدّم في أوكرانيا أكثر ممّا فعل، خصوصا في ظل الخسائر البشرية والمادية التي تكبّدتها روسيا وضعف اقتصادها واضطرارها إلى استقراض الجنود والذخيرة من كوريا الشمالية والمسيّرات من إيران. فهل سيتوصل الطرفان إلى ترسيم حدود جديدة بينهما وفق خطوط الجبهة أم على قاعدة أخرى؟ وهل سيوقف البلدان سعيهما لتحقيق مصالحهما، وهي لا شك مصالح متضاربة؟

في المقابلة التي أجراها ترامب مع الصحافي الأميركي تاكر كارلسن في تشرين الأول الماضي قال "إن الأمر الوحيد الذي لا تريد أن يحدث هو أن تتحد روسيا والصين. وإذا فعلتا، سينبغي لي أن أفكّ هذه الوحدة وأعتقد أنني سأكون قادراً على ذلك."

في كل الأحوال، أثتبت التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة – قبل ترامب ومعه – قادرة على تغيير المعادلات. إذا كان يؤخَذ على الرئيس بايدن سكوته أو عجزه عن كبح جماح إسرائيل رغم الفظاعات وجرائم الحرب التي تقول المحكمة الجنائية الدولية إنها ارتكبتها، فإن مجرّد انتخاب ترامب رئيساً غيّر المعادلات ولمّا يتسلّمْ مهامّ الرئاسة. فإسرائيل أكملت حملتها على لبنان وفرضت عليه اتفاقاً لن يخفّف من وقعه القولُ إن لبنان هو مَن طالب به. تأثير ترامب أن حزب الله انكفأ، وبانكفائه فكّ أسْر انتخاب رئيس الجمهورية ووضعه على نار حامية بدليل التحركات الناشطة وبدء إعلان الترشيحات، وأتاح لإسرائيل أن تأخذ بالحرب ما كانت ملجومة عن أخذه في السابق.

وما إن وافقت الحكومتان اللبنانية والإسرائيلية على الاتفاق حتى بدأت حركة عسكرية في سوريا أفضت في عشرة أيام إلى سقوط النظام في يد المعارضة المسلحة بعد مغادرة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو "لاجئاً إنسانياً" على حد قول روسيا.

هل يستمرّ مفعول ترامب فتتمكّن الأمم المتحدة من إكمال معالجة الوضع في سوريا رغم تعارض المصالح؟ وإذا كان اللاعبون الدوليون والإقليميون والمحليون متفقين على هدف إسقاط الأسد، فهل يمكنهم تخطّي تضارب مصالحهم في مرحلة ما بعد الأسد للسماح ببناء الدولة السورية؟

أهملت الولايات المتحدة ودول الغرب عموما سوريا لأنها كانت تعتبر أنّ "نظام الأسد لا يُزاح،" إلى أن اكتشفت أنها أخطأت التقدير والحكم. ومع الإرث الثقيل لسنوات من العقوبات الاقتصادية والفساد، يبقى احتمال تطوّر الوضع في سوريا إلى الأسوأ احتمالاً وارداً.

قبل انتخاب ترامب تمكنت الولايات المتحدة من تجنّب وقوع مواجهة كبرى بين إيران وإسرائيل إذ شاركت مع عدد من حلفائها الدوليين والإقليميين في تأمين مظلة دفاعية لإسرائيل التي أثبتت أنها قادرة على الرد الفعّال. لكنّ استمرار إيران في تطوير برنامجها النووي سيدفع ترامب إلى التشدد، مع رغبته الكامنة في عقد صفقة تعزّز وضع الإصلاحيين.

يعمل ترامب للتوصل إلى اتفاقات مع روسيا والصين تحفظ للولايات المتحدة تقدّمها، وفي الوقت نفسه تُبعِد الأطراف الثلاثة عن الحرب مباشرة أو بالوكالة وتجنّبها إراقة الدماء. وهكذا، إذا تمكّن ترامب من عقد هذه الصفقات فسيرسم لنفسه صورة صانع ٍللسلام وقد يصبح مرشحا لنيل ما حلم طويلاً به وهو جائزة نوبل للسلام (على غرار الرئيسين الديمقراطيين جيمي كارتر وباراك أوباما).