متناقضة هي المؤشّرات المنبعثة من التطوّرات الإقليمية والمحلية على الوضع الاقتصادي اللبناني. منطقيًا، فإنّ التوقّعات بدخول المنطقة نوعًا من الاستقرار السياسي والأمني، معطوفًا داخليًا على تحقيق الإصلاحات التي طال انتظارها، تفترض عودة لبنان إلى النمو. إلّا أنّ التجارب السابقة علّمتنا بالطريقة الصعبة ألّا نقول "فول إلّا عندما يصبح بالمكيول". فـ"الشياطين تكمن في التفاصيل"، وما أكثر المكر في ما يحاك من خطط على الصعيدين الداخلي والخارجي.
الحاجة إلى إصلاحات
أولى البشائر التي تلقّاها لبنان بإمكان استتباب الأوضاع على الصعيد الاقتصادي أتت من الأسواق الدولية، حيث ارتفع سعر تداول سندات الدين اللبنانية بالعملة الأجنبية "اليوروبوندز"، من نحو 6 سنتات للدولار في نهاية أيلول الماضي، إلى 12 سنتًا قبل أيام. صحيح أنّ هذا الرقم ما زال متدنيًا جدًا مقارنة بالأسعار التي تبلغها السندات عند وضع خطة إعادة هيكلة الديون على طاولة البحث الجدية، إلّا أنّ هذا الارتفاع الذي قارب 100 في المئة غداة وقف الحرب وفي غضون أسابيع قليلة "يمثّل تلمّس المستثمرين الدوليين إمكان خروج لبنان من مرحلة الجمود، وبدء معالجة الملفات العالقة منذ سنوات"، بحسب الخبير في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. "فالأسواق الدولية انتقلت من حالة انعدام الأمل بتحسّن الأوضاع الاقتصادية في لبنان إلى الأمل والتطلّع إلى مرحلة جديدة، ولو أنّ السعر ما زال، إلى اللحظة، ضئيلًا على مقياس أسعار السندات عالميًا (تبلغ القيمة الاسمية للسند 100 دولار)". وتحسّن أسعار السندات أكثر "مرهون بتنفيذ الشروط الاقتصادية المعروفة، واعتماد برنامج إصلاح "أرثوذكسي" كما طالب صندوق النقد على مدى سنين طويلة"، يضيف الزين. "وأن يطبق المسؤولون الحوكمة المطلوبة لتحقيق الإصلاح. وهذا من شأنه أن يؤمّن دعمًا ماليًا ودوليًا كبيرين". وبمعزل عن الافتراض أنّ ارتفاع الأسعار سيّىء كونه سيزيد كلفة إعادة الهيكلة على الدولة، يستحيل على حاملي الدين أن يقبلوا بسعر يقلّ عن 20 أو 25 سنتًا للدولار لاسترجاع ديونهم. والسعر المتدنّي كان يعبّر عن العسر السياسي والأمني والاقتصادي، وتحسّنه قد يكون دليلًا إيجابيًا.
التحديات أمام الاقتصاد اللبناني كبيرة، وليس من السهولة بمكان افتراض الخروج منها كـ"الشعرة من العجين".
سعر الاسترداد 25 سنتًا للدولار
على الرّغم من حتمية سقوط حقّ الدائنين بالمطالبة بالفوائد على الديون في آذار 2025، أي بعد 5 سنوات من التخلّف عن السداد، إذا لم تبدأ إعادة الهيكلة أو المبادرة إلى رفع الدعاوى على الدولة اللبنانية، فإنّ بنك "غولدمان ساكس"، توقّع أن تتأخّر إعادة الهيكلة إلى نهاية 2026 وأن تبلغ قيمة الاسترداد نحو 25 سنتاً لسندات اليورو اللبنانية. وفي تقرير جديد عنوانه "إعادة النظر في قيم استرداد ديون لبنان"، اعتبر البنك أنّ اتفاق وقف إطلاق النار، والأخبار اللاحقة بشأن جلسة برلمانية مخطّط لها في 9 كانون الثاني لانتخاب رئيس جديد لقي اهتمام المستثمرين بسندات اليورو اللبنانية المتعثّرة. وبرأيه، فإنّ ارتفاع قيمتها أكثر يعتمد إلى حد كبير على قيمة الاسترداد المتوقّعة عند أيّ إعادة هيكلة". وعليه، يجد الباحثون في "غولدمان ساكس" أنّ التخفيض المطلوب لوضع الدين على مسار مستدام في حالتنا الأساسية سيكون 75 في المئة من رصيد الدين المستحقّ في وقت إعادة الهيكلة. وهذا يعني قيمة استرداد تبلغ نحو 25 سنتاً بالدولار. ولكن بسبب عدم اليقين، يقدّمون تقديرات لقيمة الاسترداد لعدد من السيناريوهات البديلة، من تأخير إعادة الهيكلة إلى دعم خارجي أكبر.
المخاطر على سعر الصرف
إعادة الهيكلة المتوقعة لن تأتي على طبق من فضة من دون أكلاف، بل ستضيف 2.9 مليار دولار إلى الدين الحكومي، وفقًا لأحدث المقترحات"، بحسب تقديرات "غولدمان ساكس". "كما أنّه من شأن إعادة إعمار البنية التحتية إضافة 15 مليار دولار أميركي أخرى"، يتوقع البنك أن تكون مقدمة من المقرضين المتعددي الأطراف والثنائيين على أساس امتيازي. وعلى الرغم من أن ديناميكيات الدين تدعم تسارعًا حادًا في النمو الاقتصادي بعد إعادة الهيكلة إلى جانب ضبط مالي متواضع، فقد "تواجه المزيد من خفض قيمة العملة المرتبطة بإمكان تحويل الودائع المحلية إلى ليرة لبنانية"، أو ما يعرف بـ"ليلرة" الودائع.
بحسب خطّة التعافي الأخيرة، ستُحوّل عشرات المليارات من الودائع، ولا سيما للشطر الذي يراوح بين 100 و500 ألف دولار، وللودائع غير المؤهلة بين 36 و100 ألف دولار، إلى الليرة اللبنانية. وعلى الرغم من اعتماد سعر صرف يراوح بين 30 و45 في المئة من سعر السوق السائد، فإنّ دفع الودائع بالليرة على مدار 11 عاماً سيضيف كتلة نقدية بالليرة تبلغ 678 ألف مليار ليرة، أو ما يعدل 62 ألف مليار ليرة سنويًا على مدى 11 عامًا. ولقياس خطورة هذا الرقم على سعر الصرف والتضخم، نشير إلى أن وصول الكتلة النقدية بالليرة إلى نحو 90 ألف مليار ليرة، رفع سعر الصرف إلى 140 ألفًا. ولم يبدأ الأخير التراجع إلّا مع امتصاص فائض الليرات وتخفيض هذا الرقم إلى حوالى 50 ألف مليار ليرة راهنًا أو حتّى أقلّ بقليل.
ممّا لا شكّ فيه أنّ التحديات أمام الاقتصاد اللبناني كبيرة، وليس من السهولة بمكان افتراض الخروج منها كـ"الشعرة من العجين". ويكفي أنّ هناك فجوة مصرفية تقدّر بـ 76 مليار دولار، ودينًا خارجيًا يتجاوز 40 مليار دولار مع فوائده، وديونًا داخلية بالليرة ومستحقّات للبنك الدولي وغيره من الجهات تتجاوز ملياري دولار، وتكاليف حرب مباشرة وغير مباشرة لا تقلّ عن 15 مليار دولار. وعليه، فإنّ معالجة ديون تمثّل أكثر من 6 أضعاف الناتج لن تكون مهمّة يسيرة، إذ تتطلّب، بالاضافة إلى الالتزام، الكثير من الصبر والتضحيات، ولعل أهمّها "التضحية" بالمصالح والمنافع والامتيازات الشخصية للكثير من العاملين في الشأن العام.