لو راجع أحدنا تقارير البنك الدولي عن لبنان منذ بدء الانهيار إلى أول من أمس، لقال: لو كان هذا البلد حجرًا لنطق بالإصلاحات. تقارير "قاسية" في اللهجة، و"موجعة" في الحقائق، أكملت ما بدأه وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان عقب المؤتمر الرابع لدعم لبنان، من 2018 إلى 2020. فحلّت "عصا" العقوبات والعزلين المالي والنقدي عن النظام العالمي، مكان "جزرة" مليارات "سيدر"، ولم تُنفّذ الإصلاحات. وها هو البنك الدولي يعنون من جديد بأحدث تقاريره "تفاقم الأعباء على بلد مأزوم"، ولا من يدرك مدى الأخطار.

توقّع المرصد الاقتصادي للبنان – خريف 2024، انخفاض نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة تقدّر بنحو 6.6 في المئة هذا العام، نتيجة الحرب. وهذا ما رفع الانخفاض التراكمي في إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي منذ عام 2019 إلى قرابة 38 في المئة في نهاية العام الحالي. وإذا سلّمنا أنّ الناتج كان في العام 2019 حوالى 54 مليار دولار، فيكون قد انخفض في العام 2025 إلى 33.5 مليار. ويحتاج هذا الرقم إلى مراجعة مدقّقة، خصوصًا أنّ البنك الدولي نفسه سبق أن قدّر الناتج المحلّي في الأعوام الماضية بنحو 22 مليار دولار. بمعزل عن هذا اللغط، يتوقعّ التقرير أن ينكمش النشاط الاقتصادي بنسبة 5.7 في المئة عام 2024، أي ما يعادل خسارة قدرها 4.2 مليار دولار أميركي في الاستهلاك وصافي الصادرات. ويبحث القسم الخاص من التقرير في تأثير الصراع على الاقتصاد اللبناني من خلال تحليل الصدمات التي لحقت بالاستهلاك وصافي الصادرات، ولا سيما صادرات الخدمات من عائدات السياحة، وهي ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد اللبناني، بعد التصعيد الكبير في منتصف أيلول 2024. ويبلور التقرير سيناريو معاكسًا للواقع، إذ في غياب الصراع كان من الممكن أن ينمو الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 0.9 في المئة عام 2024.

عناوين تقارير البنك الدولي الخاصة بلبنان

العودة إلى تقارير البنك الدولي السابقة، وتحديداً منذ العام 2020، ومقارنة بعضها ببعض عامًا بعد آخر، تُظهر أوجه التشابه الكبير. فجميع التقارير تستعرض تدهور المؤشرات الاقتصادية، محللةً انعكاساتها على زيادة معدّلات الفقر والحرمان، وتنادي بضرورة الإسراع في تطبيق الإصلاحات.

وللتذكير فقط:

حمل تقرير خريف 2020 عنوان "الكساد المتعمد"، وبيّن أنّ الافتقار المقصود إلى إجراءات سياسية فعّالة من جانب السلطات، أدّى إلى تعريض الاقتصاد لكساد شاق وطويل. قال التقرير إنّ لبنان يعاني استنزافًا خطيرًا للموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، إذ باتت هجرة العقول تمثّل خيارًا يائسًا على نحو متزايد. ويتركّز عبء التعديل الجاري في القطاع المالي بشكل خاص على صغار المودعين الذين يفتقرون إلى مصادر أخرى للإدخار، والقوى العاملة المحلية التي تحصل على مستحقّاتها بالليرة اللبنانية، والشركات الصغيرة.

في حزيران 2021، أصدر البنك الدولي التقرير الأخطر المُعنون "لبنان يغرق: نحو أسوأ 3 أزمات عالمية"، مرجّحاً أن تُصنّف هذه الأزمة الاقتصادية والمالية في عداد أشدّ عشر أزمات، وربما إحدى أشدّ ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفي مواجهة هذه التحديات الهائلة، يهدّد التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلًا والسلام الاجتماعي الهش، ولا تلوح في الأفق أيّ نقطة تحوّل واضحة.

بعد مرور 3 سنوات على الانهيار، أصدر البنك الدولي تقريره للعام 2022 تحت عنوان "حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف". ورأى أنّ الخلاف بين الأطراف المعنية الرئيسة على كيفية توزيع الخسائر المالية لا يزال يمثّل العقبة الأساسية في وجه التوصل إلى اتفاق بشأن خطّة إصلاح شاملة لإنقاذ البلاد. ومن المرجَّح أن يؤدي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى زيادة تأخير التوصّل إلى أيّ اتفاق بشأن حلّ الأزمة وإقرار الإصلاحات الضرورية، وهذا ما يعمِّق محنة الشعب اللبناني.

عام 2023، رأى البنك الدولي في تقريره أن لبنان علق "في قبضة أزمة جديدة". إذ مثّل الصراع الدائر في غزة صدمة إضافية كبيرة لنموذجَ النمو الاقتصادي اللبناني غير المستقر. وإذا لم يتمّ تنفيذ خطّة شاملة لحلّ الأزمة، فلن تكون هناك استثمارات طويلة الأجل ومجدية، وسيعاني لبنان مزيدًا من التآكل في رأسماله المادي والبشري والاجتماعي والطبيعي.

المخاطر على سعر الصرف

الجديد هذا العام قد يكون تحذير البنك الدولي من عودة سعر الصرف للانهيار بعد استقرار هشّ دام أكثر من عام ونصف العام. فعلى الرغم من استقرار سعر الصرف منذ آب 2023، فإنّ "هذا الاستقرار لا يزال هشّا وغير مستدام بسبب غياب الإطار النقدي القوي اللازم لدعمه"، بحسب التقرير. "فهو يعتمد، بدلّا من ذلك، على القيود المالية وقيود إنفاق مفروضة على حسابات المؤسسات العامة لدى مصرف لبنان، إلى جانب زيادة تحصيل الإيرادات وفوائض القطاع العام غير المنفقة. وقد نجحت هذه الإستراتيجية في كبح الكتلة النقدية المتداولة بصورة مؤقتة، لكن على حساب تأخير الاستثمارات الحيوية اللازمة لتحقيق التعافي والتنمية. ويهدّد تزايد متطلبات التمويل في مرحلة ما بعد الصراع، وتتفاقم هذه الضغوط بسبب انخفاض إيرادات المالية العامة، لا سيما تلك التي يجري تحصيلها من ضريبة القيمة المضافة. كما أنّ التخلّف عن سداد الديون السيادية منذ آذار 2020 لا يتيح للبنان سوى الحصول على الحدّ الأدنى من المساعدات الإنسانية المخصصة للنزوح الداخلي والاستجابة للصراع، وهناك حاجة إلى إعادة هيكلة شاملة للديون بغية استعادة القدرة على النفاذ إلى أسواق رأس المال الدولية، وتمكين البلاد من مواجهة تحدياتها المتعددة الأوجه". ومن المرجح أن يتفاقم عجز الحساب الجاري وهو الذي يمثل مشكلة مزمنة بالفعل. وأن تظل واردات السلع الأساسية مرتفعة، إذا لم تحدث اضطرابات في خطوط التجارة، في حين أنّ تراجع الصادرات وعائدات السياحة يزيد من الضغط على أسس الاقتصاد اللبناني. ولا يزال عجز الحساب الجاري في الجانب الأكبر منه، ممولًا من اقتصاد نقدي مدولر بدرجة عالية، وهذا ما يقوّض احتمالات التعافي.

الحاجة أصبحت ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى لإجراء إصلاحات شاملة بوصفها السبيل الوحيد للمضيّ قدمًا في مرحلة ما بعد الصراع.

تعمق الفروقات في الدخل

بمقارنة الاختلافات في القوّة الشرائية بين شخص يحصل على دخل بالدولار الأميركي وآخر يحصل على دخل بالليرة اللبنانية، يجد التقرير أنّ الشخص الذي يكسب دخله بالدولار ،والذي تمّ تقييم دخله بأكمله بالدولار منذ عام 2019 كان سيواجه تراجعًا تراكميًا بنسبة 4.9 في المئة في القوة الشرائية من أيلول 2019 حتى عام 2024، وإن كان ذلك مصحوباً بتقلّبات كبيرة على أساس سنوي. رغم التقلبات، يبقى هذا التراجع أقل بكثير من التضخم التراكمي الهائل البالغ 5970.7 في المئة والذي واجهه متقاضو الأجور بالليرة اللبنانية خلال الفترة نفسها.

الإسراع في الإصلاحات

الحاجة أصبحت ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى لإجراء إصلاحات شاملة بوصفها السبيل الوحيد للمضيّ قدمًا في مرحلة ما بعد الصراع. وتشمل الأولويات الرئيسة بحسب البنك الدولي "تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وتعزيز الحوكمة وتحسين أداء الخدمات والمرافق العامة، وتعزيز رأس المال البشري". كما أنّ "إدراج لبنان على القائمة الرمادية المجموعة العمل المالي أخيرًا، أدّى إلى زيادة المخاطر المتعلّقة بالسمعة. وقد يؤدّي إلى ارتفاع تكاليف المعاملات والتأخير في تدفقّات رأس المال. وهذا ما يؤكّد الحاجة الملحّة إلى تعزيز إجراءات الرقابة والامتثال في القطاعات غير المالية العالية المخاطر بهدف رفع اِسم لبنان عن هذه القائمة. وتعدّ الاستثمارات الموجّهة ضرورية لدعم الإصلاحات المستدامة وتسهيل استعادة الخدمات الأساسية، وإعادة بناء مخزون رأس المال المتضرّر في لبنان. ويجب أن تعطى هذه الجهود الأولوية أيضًا لتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي واستعادة خدمات البنية التحتية الحيوية. ويعدّ تيسير حصول لبنان على التمويل، لا سيما من خلال الإصلاح الشامل الذي يتضمّن استعادة الاستقرار في القطاع المصرفي وإعادة هيكلة الديون، أمرًا حيويًا لتحقيق هذه الأولويات وتوفير الدعم المؤسسي اللازم لتحقيق التعافي والأهداف الإنمائية الطويلة الأجل في لبنان.

تتعدّد التقاير ويبقى المضمون واحدًا: الدعوة للإصلاح. فمن دون إصلاحات جدّية فإنّ الأزمات ستتعمّق والفقر سيرتفع وستعمّ الفوضى على كافّة المستويات.