8 كانون الأول 2024 محطة مفصلية تاريخية ليس بالنسبة إلى سوريا فحسب بل كذلك إلى لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وإلى ما عرف بـ"محور الممانعة" مع انتهاء عصر نظام آل الأسد. فقد شكّل هذا النظام عميد الأنظمة العسكريتارية – الديكتاتورية – التوريثية في هذا الشرق، بعدما قبض على السلطة في سوريا وعلى أنفاس مواطنيها منذ 12 آذار 1971 مع وصول حافظ الأسد الى سدّة الرئاسة تتويجاً لتدرّجه في الانقلابات التي انطلقت في 8 آذار 1963 مع استيلاء اللجنة العسكرية التابعة للفرع السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة. عقب وفاة الأب عام 2000 تم توريث الابن بشار عبر انتخابات مستنسخة عن تلك التي شهدتها سوريا مع والده وهي كانت استفتاءات بالدم وفوز بنسبة 99% من الأصوات.
لا تقتصر أسباب العمر المديد لآل الأسد في السلطة على استخدام العنف وزرع الرعب في النفوس بل على تواطؤ مصالح الدول معه، وغضّ النّظر على الموبقات بحقّ الإنسانية التي كان يقترفها ليس في سوريا فحسب بل أيضاً في لبنان الذي لطالما اعتبره "الخاصرة الرخوة". بلغت الوقاحة بالمجتمع الدولي حدّ تلزيم الأسد الأب لبنان وإطلاق يده فيه مطلع تسعينات القرن الماضي، مكافأةً على انخراطه في صفوف التحالف الدولي لتحرير الكويت من جهة وتعزيز دور "الشرطي" الذي احترفه لضبط المنطقة على تخوم إسرائيل من جهة أخرى.
لا تقتصر أسباب العمر المديد لآل الأسد في السلطة على استخدام العنف وزرع الرعب في النفوس بل على تواطؤ مصالح الدول معهفي الأساس، كان الأسد الأب لاعبًا سياسيًا يحترف الإستراتيجيا ويتقن التكتيك ويمتهن صوابية التوقيت، وفي هذا الإطار تندرج حقيقة دخول جيشه إلى لبنان بحثًا عن مصالحه أولًا وأخيرًا وإرضاء لمعتقداته الأيديولوجية بأنّ لبنان "جزء من سوريا" وهو "خطأ تاريخي" وإن تقاطعت هذه المصالح مع مصالح هذا الفريق أو ذاك. لقد فنّدها خلال خطابه التاريخي في جامعة دمشق في 20 تموز 1976 إذ أكّد أنّه دخل لبنان من دون أن يأخذ إذنًا من أحد معلنًا حرفيًا: "سوريا ولبنان عبر التاريخ بلد واحد، وشعب واحد وهذا الأمر يجب أن يدركه الجميع… ذخائر أعطينا وسلاح أعطينا كلّ هذا موجود هناك ومتراكم فقلنا لا بد أن ندخل وننقذ المقاومة وقرّرنا أن ندخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني وبدأ جيش التحرير الفلسطيني بالدخول إلى لبنان ولا أحد يعرف هذا أبدًا، الذين يتحدثون الآن باسم فلسطين ويعيشون حالات من الوهم ويتنكّرون لكلّ جهد بذلناه من أجلهم هؤلاء لم يكونوا على علم بقرار إدخال جيش التحرير الفلسطيني ولم يعلموا به إلا عندما أصبح داخل الأرض اللبنانية. لن نأخذ رأيهم ولن نأخذ رأي الأحزاب الوطنية وبطبيعة الحال لم يكن أحد منهم مستعدًا لمناقشتنا في أيّ إجراء، المهم هم يطلبون إجراء ما ننقذهم به".
صحيح أنّ جيش الأسد انسحب من لبنان في 26 نيسان 2005 إلّا أنّه ظلّ حاضرًا من خلال حلفائه وما عُرف بمحور الممانعة الذي تفرّدت إيران بتزعّمه خصوصًا مع اندلاع الثورة السورية السلمية في 15 آذار 2011 وتحوّلها إلى حرب عسكرية بعد بضعة أشهر ما تسبّب بضعف النظام. لذا ارتبط بقاؤه على قيد الحياة بالدفاع العسكري المباشر لإيران وميليشياتها ولـ"حزب الله" عنه، والذي لم يكن كافيًا لولا التدخل الروسي المباشر لاحقًا.
اختلفت تموضعات اللبنانيين من الأسد ونظامه بين من حالفه وكان منتفعاً منه أو كان ملحقاً به أو حتى صنيعته وبين من جاراه أو استهابه وبين من خاصمه حدّ العداء. كثر تقلبت مواقفهم 180 درجة أو حتى فضلّوا الانتظار عند حافة النهر لمرور جثته، إلّا أنّ قلّة قليلة بقيت ثابتة على موقفها الرافض لتدخّله في لبنان وانتهاكه سيادته واعتقاله أبناءه. في هذا الإطار، يسجّل لسمير جعجع – قائد "القوات اللبنانية" التي رفعت في زمن الحرب شعار "إعرف عدوك السوري عدوك" – أنّه الأكثر ثباتًا في مواجهة الأسد الأب والابن في العسكر والسياسة.
جعجع، وفي أولى أدواره السياسية التي حقّقها عبر الاستثمار بالعسكر، نجح بتوجيه صفعة مدوية لرغبة حافظ الأسد حين أطاح الاتفاق الثلاثي عبر انتفاضة 15 كانون الثاني 1986. ثم كرّر الأمر في الانتخابات الرئاسية عام 1988 عبر إطاحة اتفاق "ميرفي-الأسد" وبالتهديد بمعادلة "مخايل الضاهر أو الفوضى" (ريتشارد مورفي هو مساعد وزير الخارجية الاميركية يومذاك). فكان ردّ الأسد الفاتك بحق جعجع عقب الانقلاب على "الطائف" واختلال موازين القوة لمصلحته إذ عمل على ترويضه وتهميشه وإخضاعه وصولًا الى الزجّ به في السجن في 21 نيسان 1994 بعد حلّ "القوات" وملاحقة جمهورها.
يأخذ حلفاء الأسد وخصوم جعجع عليه أنّه فاوض السوريين عقب انتهاء الحرب كما زار القرداحة معزّياً بوفاة باسل الاسد. وفات هؤلاء أنّ جعجع كان يحاور ولم يساوم ولو أقدم على ذلك لما اعتُقل إفراديًا 4114 يوماً. كما أنّه رفض الحديث في السياسة خلال زيارته اليتيمة التي كانت من باب الواجب الاجتماعي، بهدف محاولة كسب الوقت بعدما اتضح له أنّ مسار التضييق عليه عبر اغتيال 4 من كوادر "القوات" وفتح ملفات لقواتيين وتوقيفهم وصولًا إلى تفجير بيت "الكتائب" في 23 كانون الأول 1993 وتوجيه أصابع الاتهام إلى "القوات". هذا المسار كان واصلًا لا محالة الى 21 نيسان ما. المفارقة أنّ من ينتقدون جعجع جميعهم تردّدوا إلى سوريا وبعضهم ارتمى في أحضانها تاركًا خلفه شعارات مواجهتها و"تحطيم رأس حافظ الأسد" و"خلخلة مسار حكمه" ومتنصلًا من ملفات مهمة مرتبطة بالسيادة وأخرى مقدّسة مرتبطة بالمعتقلين في سجون الأسد.
اليوم مع سقوط نظام الأسد، عمّت الاحتفالات مناطق عدّة من لبنان، من طريق الجديدة وبعقلين إلى الأشرفية الشاهدة على حرب المئة يوم عام 1978 وطرابلس التي كانت مسرحًا لأفظع عمليات إجرامه في باب التبانة عام 1985 والقاع التي شهدت مع رأس بعلبك وجديدة الفاكهة مجزرة عام 1978.
هل ينتهي عهد الإنكار ونستفيد من الظرف القائم لضبط الحدود جغرافيًا وحصر اللعبة في الداخل اللبناني سياسياً؟
صعق العالم بأسره من الحقائق التي تكشّفت عن هوس الإجرام واحترافية التعذيب في سجون الأسد، وفي طليعتها سجن صيدنايا أو "المسلخ" حيث معتقلون – بعضهم ولد في السجن وعمره 4 سنوات، وبعضهم مدفون حيّاً منذ 40 عامًا - أضحوا أرقامًا وسلبت ذاكرتهم منهم واستبيحت أجسادهم.
الأهمّ أنّ أكاذيب عدم وجود معتقلين في سجون الأسد - التي كان يروّج لها حلفاؤه اللبنانيون وفي طليعتهم العماد ميشال عون الذي تبرّع بإعطاء نظام الأسد "براءة ذمة" في هذا الصدد خلال أول زيارة له إلى الشام - سقطت بالضربة القاضية مع وصول الأسير المحرّر سهيل حموي إلى بلدته شكا بعد اعتقال دام 33 عاماً بتهمة الانتماء إلى "القوات اللبنانية"، فيما أعلن وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال بسام مولوي بعد اجتماع لمجلس الأمن الداخلي المركزي أنّ 9 من المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وصلوا الى لبنان.
لبنانيون كثر شربوا نَخبَ طحن نظام الأسد خلال 10 أيام فقط كما كان يطحن المعتقلين في مكبس سجن صيدنايا خلال عشرات السنين، وآخرون شعروا ربما بـ"اليتم السياسي". لكن هل يعقل أن يصمت أفرقاء كثر كـ"القبور المكلّسة" أمام حقيقة وجود معتقلين في سجون الأسد وأمام الإجرام الذي فتك بهم؟! أو أن تبلغ الوقاحة ببعضهم حدّ الدفاع عن الأسد معتبرين أنّه تعرّض لحرب كونية وسط أحاديث عن المساهمة في تهريب كبار كوادره عبر بيروت؟!
التنكّر لأوجاع المعتقلين في سجون الأسد والدفاع عن نظامه جريمة إنسانية ووطنية
إن اعتبر بعضهم أنّ الحديث عن أنّ حقبة "حزب الله" العسكرية ودور محور الممانعة انتهيا ولعبة الخروج عن الدستور هي Game over أمر استفزازي، أفليس التنكّر لأوجاع المعتقلين في سجون الأسد والدفاع عن نظامه جريمة إنسانية ووطنية؟! أيًّا يكن، ومهما طال الزمن، فلا بدّ لأيّ نظام ديكتاتوري من أن ينتهي إلى مزبلة التاريخ وللمتنطّحين بالدفاع عنه أن يتعرّوا أمام الحقائق الإنسانية الصارخة. فهل ينتهي عهد الإنكار ونستفيد من الظرف القائم لضبط الحدود جغرافيًا وحصر اللعبة في الداخل اللبناني سياسياً؟