شهد لبنان دمارًا كبيرًا نتيجة الحرب الإسرائيلية بين تشرين الأول 2023 وتمّوز 2024، إذ بلغ حجم الركام نحو 100 مليون طن، وفق تقارير البنك الدولي. وتجاوزت الخسائر الاقتصادية حدود الدمار المادي. فقد تأثّر أكثر من 600 مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت وتصدّع نحو 30% من المباني الأخرى، تصدعًا جعلها غير صالحة للسكن.
وأشارت التقديرات إلى أنّ حجم الدمار يقارب مرتين حجم الدمار في حرب تمّوز 2006. ومع ذلك، فإنّ التعامل مع هذه الكارثة يتطلّب خططًا دقيقة لتقييم الأضرار وإيجاد حلول ملائمة، عبر الهدم الكلي أو الترميم.
أزمة أسعار الألمنيوم والزجاج
مع انتهاء الحرب، تفاقمت أزمة إعادة الإعمار بسبب استغلال التجار ارتفاع الطلب على مواد البناء. وفي جولة لـ "الصفا نيوز" على محالّ الزجاج والألمنيوم، تبيّن أنّ الزجاج الذي كان يُباع بـ50 دولارًا ارتفع إلى ما بين 70 و80 دولارًا. تجار الألمنيوم والزجاج اعترفوا برفع الأسعار، وبرروه بارتفاع الطلب، في حديثهم لـ”الصفا نيوز”، وطلبوا من المتضررين الاحتفاظ بالفواتير لمرحلة التعويض، وهذا ما يزيد العبء على الأسر المتضررة التي عادت إلى منازلها بسرعة لتجنّب تكاليف النزوح الإضافية.
في هذا السياق، نشر رئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور رسالة ناشد فيها التجار عدم استغلال العائدين إلى منازلهم، واصفًا هذه الأفعال بأنّها "تنمّ عن انعدام الضمير وإن كانت جهات ستتحمّل كلفة الترميم". وختم منصور رسالته بدعوة "الدولة وجميع أصحاب النفوذ والمعنيين، بمن فيهم مصلحة حماية المستهلك وكلّ من هو معني بالملف، إلى أن يتحركوا بحزم ويضربوا بيد من حديد في ملاحقة هؤلاء الجشعين وفرض رقابة صارمة على الأسعار".
فهل من رقابة على تجار المواد والبضائع المستخدمة في إعادة ترميم المنازل المتضررة؟
يكشف المدير العام لوزارة الاقتصاد والتجارة الدكتور محمد أبو حيدر أنّ "مراقبي حماية المستهلك بدأوا منذ صباح الإثنين بجولات على ورش الألومينيوم والزجاج وكلّ ما له علاقة بتجهيز المنازل من أدوات كهربائية وغيرها".
إدارة الركام: بين التحديات والفرص
يمثّل الركام الناتج عن الدمار تحديًا بيئيًا واقتصاديًا كبيرًا. بينما تنوّعت الاقتراحات حول استخدامه في إعادة الإعمار أو الردم البحري، يرى خبراء أنّ الركام غير المعالج لا يصلح للبناء، لكنه يمكن استخدامه لإنشاء الطرق أو تحسين الأراضي الزراعية بعد معالجته.
وكان رئيس لجنة السلامة العامة علي حناوي قد دعا إلى خطّة وطنية شاملة للتعامل مع الركام، مشددًا على ضرورة فحصه للتثبّت من خلوه من المواد السامة. وحذر من التلوث البحري لدى استخدام الركام للردم من دون ضوابط بيئية.
وبمعزل عن التقديرات أعلاه، يشير رئيس الجمعية اللبنانية للتخفيف من أخطار الزلازل المهندس راشد جان سركيس إلى وجوب الأخذ في الاعتبار قياس المساحات التي تعرّضت للقصف والهدم العنيف، موضحًا وجود 10 كيلومترات في بيروت ومحيطها وضواحيها ونحو 50 كيلومتراً مربعاً في الجنوب وبعلبك والبقاع، وهذه كلها يمكن اعتمادها للاحتساب التقديري المنطقي. أما حجم المساحات المربعة المبنية المقدرة بنحو 42 مليون متر مربع، فينتج عنها ركام قد يصل إلى 20 مليون متر مكعب.
تشير التقديرات أيضاً إلى تصدّع نحو 30% من المباني التي يجب هدمها لكونها لم تعد صالحة للسكن، بيد أن سركيس يؤكد أنه "لا يمكننا فصل المباني المصابة عن تلك المهدمة من حيث مقاربة الحلول والتشريع والمساندة. وتالياً يجب البدء من حسابات دقيقة في مستوى الأبنية المصابة وإمكان تصليحها أو ترميمها، ووضع دراسات متجردة والتقرير على أساسها هدم المبنى أو المحافظة عليه". ويلفت إلى 3 محاور يجب العمل عليها في مجال المباني، وهي:
- الأبنية المنهارة كليًا أو جزئيًا، إذ يجب هدمها كليًا ورفع الأنقاض ضمن خطةوطنية متكاملة تحرص على سلامة البيئة على نحو تامّ.
- الأبنية التي تفوق إصابتها 50% يجب أن تكون موضوع دراسة جدوى لتقرير مصيرها. وثمة عنصر إضافي يجب أخذه في الاعتبار وهو التنظيم المديني للمواقع الأكثر تضررًا، إذ يجب التفكير الجدي في التحديث وإعادة النظر في تصميم السطح والارتفاعات وتطوير الموقع عقاريًا، وتحويل السلبية في الهدم إلى إيجابية في البناء.
- الأبنية التي تعرّضت لإصابات طفيفة يمكن أن تشكل موضوع نقاش وجدل على مستوى الهندسة لجهة إبقائها أو تبديلها بحسب عمرها ومكانها وموقعها بالنسبة إلى المباني الأكثر تضررًا. وتاليًا، يجب الإفادة القصوى من فرصة تاريخية (تحويل السلبي إلى إيجابي) للمضيّ في تقرير التحول البنيوي لمناطق جديدة تنقل الناس إلى مستوى جديد من الحياة المدينية الراقية والمنضبطة تحت معايير الأمان والسلامة العامة والحركة الحرة للجميع.
البيئة في خطر
ومعروف أنّ التعامل مع الركام يحمل تحديات بيئية هائلة. في ظل احتمال احتوائه على مواد سامة أو يورانيوم منضب، دعا المهندس راشد جان سركيس إلى فحص الركام قبل اتخاذ أيّ قرار في شأن استخدامه. كما شدّد على أهمية اتباع معايير بيئية صارمة لمنع كارثة بيئية أخرى تضاف إلى معاناة المواطنين.
على أنّ إعادة إعمار لبنان بعد العدوان الإسرائيلي تتطلّب تضافر جهود حكومية وشعبية، ووضع خطط مدروسة تراعي البعد البيئي والاقتصادي والاجتماعي. ورغم الجهود المبذولة لمراقبة الأسواق، لا تزال الحاجة ماسة إلى رقابة صارمة وإجراءات حازمة لمنع استغلال الأزمة. أمّا الركام، فيمكن أن يمثل فرصة إذا ما أُدير بشكل صحيح، لكنّه قد يتحول إلى عبء إذا أُهملت معايير السلامة والبيئة.
ليس مردّ معاناة اللبنانيين إلى القصف فحسب، بل تفاقمت أيضًا بسبب استغلال الأزمات، وهذا ما يتطلّب استجابة عاجلة تضع مصلحة المواطنين فوق أي اعتبار آخر.
1