لم يكن أحد يتوقّع هذا السقوط المريع والسريع للنظام السوري الذي وضع لبنان والمنطقة أمام احتمالات شتّى، وربما أمام تطورات خطيرة في ظلّ الحديث عن خرائط جديدة ترسم للشرق الأوسط، الذي توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بتغيير وجهه عندما شنّ حربه التدميرية على قطع غزة غداة عملية "طوفان الاقصى" في 8 تشرين الأول 2023، والتي استتبعها بحرب على لبنان في 23 أيلول 2024، بعد حرب الإسناد التي شنّها حزب الله عليها في اليوم التالي لـ"الطوفان".
كانت المعارضة السورية المسلّحة بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ"أبي محمد الجولاني" بدأت هجومها انطلاقًا من أدلب على معاقل النظام في حلب وحماه، غداة إعلان نتنياهو موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار مع لبنان وتحذيره الرئيس السوري بشار الأسد من "اللعب بالنار"، لأنّه يسمح بمرور السلاح إلى حزب الله عبر الحدود اللبنانية ـ السورية، وما هي سوى أيام حتى تمكّنت المعارضة السورية من اكتساح محافظتي حلب وحماه والوصول إلى تخوم حمص وريفها، في الوقت الذي كانت الديبلوماسية ناشطة بين طهران وموسكو وأنقرة ودمشق وبغداد للتصدّي لما يجري، على وقع مواجهات عنيفة كانت تدور بين قوات النظام السوري وحلفائه يؤازرهم الطيران الروسي انطلاقًا من قاعدة حميميم إذ تعاون والطيران السوري على قصف قوى المعارضة محاولًا صدّ زحفها بداية في اتجاه مدينة حلب ثم في اتجاه مدينة حماه، ولكنّهما فشلا في صدّ المهاجمين الذين سرعان ما استولوا على مدينة حمص، في الوقت الذي أعلن الرئيس التركي رجب الطيب إردوغان أنّ المعارضة ستستمرّ في طريقها إلى دمشق، فيما تحرّك المعارضون في درعا والسويداء والقنيطرة وسيطروا سريعًا على المواقع العسكرية والأمنية في مجمل المنطقة من دون أيّ مقاومة تذكر، تمامًا كما كان الأمر في حمص ليتكرّر المشهد في دمشق التي سقطت بلا أيّ مقاومة تذكر، وهذا ما أثار ذهول العالم مقروناً بتساؤلات "عمّا عدا ممّا بدا" حتّى يسقط النظام السوري بهذه السهولة، بعدما كان يعدّ العدّة مع حلفائه الإيرانيين والعراقيين والروس لشنّ "هجوم مضاد" لدحر المهاجمين، وفق خطة أعدّت سريعًا وحددت فيها محاور التصدّي والهجوم من الحدود العراقية إلى حماه وحلب وحمص والقصير ودمشق وجنوبها وصولًا إلى الساحل السوري.
وكان سبق سقوط النظام السوري كلام كثير في وسائل إعلامية عالمية تارة عن "تخلّ" روسي عن النظام السوري وطورًا عن مقايضة دولية تقضي بإعطاء روسيا أوكرانيا مقابل حصول الولايات المتحدة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط (تحديدًا لبنان وسوريا والعراق وفلسطين وبمعزل عن إيران). في الوقت الذي واصلت إسرائيل فيه خرقها لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان محاولة التقدم برًّا إلى مناطق في الجنوب اللبناني كانت عجزت عن الوصول إليها أيام الحرب نتيجة المقاومة الشرسة التي واجهتها، وتحت جناح ذلك واصلت غاراتها الجوية على المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا أثناء هجوم المعارضة السورية على معاقل النظام وحتى يوم سقوطه، إذ قرّرت حكومتها احتلال منطقة جبل الشيخ لإقامة منطقة عازلة شمال منطقة عمل قوات "الاندوف" العاملة في المنطقة منذ حرب العام 1973 وقبلها.
يبقى لبنان في عين العاصفة في انتظار ما ستنتهي إليه العاصفة التي ضربت سوريا.
ماذا بعد سقوط النظام السوري الذي كان يشكّل إحدى الحلقات الأساسية في محور المقاومة؟ وماذا عن مستقبل هذا المحور؟ وماذا تحديداً عن مستقبل لبنان الذي تفاعلت قوى المعارضة فيه تأييدًا للقوى السورية التي سيطرت على النظام؟
ـ أولًا، ممّا لا شكّ فيه أنّ خسارة محور المقاومة لسوريا ستؤدّي إلى انقطاع خطّ الإمداد البرّي للمقاومة في لبنان، لما تشكّله سوريا من حلقة دعم وإمداد أساسية في إطار التصدّي لإسرائيل ومشاريعها ومطامعها في المنطقة، الأمر الذي قد يؤثر على قوة المقاومة وصلابتها، خصوصًا أنّها خرجت للتو من حرب طاحنة مع إسرائيل خسرت فيها قائد محور المقاومة السيد حسن نصرالله وأركان حربه الأساسيين، مع العلم أنّ المقاومة تعتبر نفسها أنّها خرجت منتصرة من هذه الحرب بمجرّد أنّها لم تمكّن إسرائيل من تحقيق أهدافها ومنها وعلى رأسها القضاء على حزب الله الذي يشكّل رأس حربتها.
ـ ثانيًا، إنّ لبنان يقف في موقع المترقّب لما سيؤول إليه الوضع الداخلي السوري في ضوء ما ستكون عليه تصرّفات قوى المعارضة، وهل تتحلّى بالواقعية وتكتفي بأنّها أسقطت نظام الرئيس بشار الأسد وتبادر إلى إقامة النظام البديل الذي لطالما طمحت إليه طوال حربها عليه، بمعنى أن تبقى ضمن حدود سوريا ولا تبادر إلى "تصدير الثورة" إلى خارجها، وتحديدًا إلى لبنان اللصيق الجغرافي بالبلاد السورية، فلا تذهب إلى الهجوم عليه بذريعة "الثأر" من حزب الله لوقوفه الدائم إلى جانب النظام والدفاع عنه منذ بداية الحرب السورية في العام 2012 وإلى الأمس؟
ففي حال اندفاع قوى المعارضة السورية في اتجاه لبنان، فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى نشوب حرب أهلية جديدة فيه، خصوصًا في ظلّ وجود نحو مليوني نازح سوري على أرضه يقولون إنّهم معادون لنظام الأسد، وكذلك في ظلّ ما بدأ يعتري الأقلّيات اللبنانية المسيحية منها والمسلمة من مخاوف على مصيرها، لأنّ القوى التي سيطرت على السلطة السورية هي ذات طابع إسلامي متشدد، وبعضها متطرّف جدًا ينادي بإقامة "حكم الشريعة الإسلامية"، على الرغم من الخطاب السياسي المعتدل الذي اعتمدته أثناء استيلائها على معاقل النظام، والذي أكّدت فيه أنّها "لا تفرّق" بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والطائفية.
ـ ثالثًا، إن التصرّف الإسرائيلي إزاء التحول السوري إلى نظام بديل، إذا جاز التعبير، يوحي كأنّ إسرائيل تعتبر نفسها منتصرة لأنّ ما حصل حيّد سوريا، بل أخرجها من "محور المقاومة" لتكون قابلة للدخول في تطبيع أو سلام مع إسرائيل، مع العلم أنّه لم يصدر بعد عن السلطة السورية الجديدة أيّ موقف يعبّر عن توجه إلى مواجهة مع إسرائيل التي تحتلّ مرتفعات الجولان السورية منذ عام 1967، في الوقت الذي بادرت تل ابيب تحت عنوان "الاحتراز" إلى إصدار قرار باحتلال أراض إضافية (مرتفعات جبل الشيخ) يوم سقوط النظام.
ـ رابعًا، إلى أن تتكشّف حقيقة ما جرى في سوريا، في أبعاده وخلفياته الداخلية والإقليمية والدولية، فإنّ العراق دخل في حال من الترقّب محتسبًا أن يحصل له ما حصل في سوريا، فيما إيران هي الجهة الأكثر ترقّبًا وتحسّبًا، لأنّ المشروع الإسرائيلي الهادف إلى ضرب منشآتها النووية وتقويض نظامها ومنعه من الاستمرار في دعم حركات المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة، هو مشروع أساسي كان ولا يزال على أجندة نتنياهو تحديدًا، وقد يبادر إليه في أيّ لحظة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حركة "انصار الله" الحوثية المتيقّظة على ما يبدو لاحتمال تعرّضها لهجوم إسرائيلي جديد. في اعتبار أنّ نتنياهو تعهّد للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب "الخلاص" من أركان "محور المقاومة" الواحد تلو الآخر، قبل أن يدخل إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني المقبل.
من هنا يبدو أنّ الأسابيع القليلة الفاصلة عن 20 كانون الثاني المقبل ستكون حافلة بالأحداث وربما بالمفاجآت، كتلك التي حصلت في سوريا، ولكن يبقى لبنان في عين العاصفة في انتظار ما ستنتهي إليه العاصفة التي ضربت سوريا، فهذا اللبنان تعوّد دائمًا أن يكون مسهّل التسويات الإقليمية أو معرقلًا لها منذ أيام "فتح لاند" إلى اليوم، وفي المستقبل.