فرحة البعض بـ"السطو" على أموال المودعين، طالت، فهل تستمر إلى ما لا نهاية؟
في السنوات الثلاث الأولى على الانهيار الاقتصادي، أُجريت عمليات على الودائع المصرفية بقيمة تناهز 66 مليار دولار. حوالى 11 مليار دولار خُصّصت للدعم، و30 مليار دولار صُرفت قروضًا مسدّدة على سعر الصرف الرسمي غير الحقيقي، و25 مليار دولار لمنصّة صيرفة. نتجت من هذه العمليات أرباح "فريش" بالمليارات ما زالت أرقامها غير محدّدة على وجه الدقّة، خصوصًا بالنسبة إلى الدعم والقروض، فيما حددت أرباح صيرفة وحدها بـ 2.5 مليار دولار. ويقدّر البعض أن تراوح الأرباح كلها بين 10 و20 مليارًا. هذه الأرباح "شُفطت" من حسابات المودعين، ويجب أن تعود إليها عاجلًا أم آجلًا.
التدقيق جنائيًا بملف الدعم
في جلستها الأخيرة أقرّت الحكومة "الآلية المشتركة المقترحة من وزارة المال ووزارة العدل لوضع القانون الرقم 240 تاريخ 16 تموز 2021، والمتعلّق بإخضاع كلّ المستفيدين من دعم الحكومة للدولار الأميركي، أو ما يوازيه بالعملات الأجنبية للتدقيق الجنائي الخارجي". مع العلم أنّ هذه الآلية كان يجب أن توضع موضع التنفيذ بعد شهرين من صدور القانون. وتنصّ الآلية باختصار على: وضع دفتر شروط نموذجي يمهّد للتعاقد مع مدقّق جنائي مالي أو أكثر. تزويد مصرف لبنان المدققين بواسطة مديرياته، كلّ وفق اختصاصها، قوائم مفصّلة بالتجّار الذين استفادوا من دعم الحكومة للسلع المشتراة بالدولار الأميركي خلال الفترة المحدّدة. وضع وزارة المال قائمة بجميع المستندات المتعلّقة بالمعاملات الجمركية المتصلة بالبضائع التي استوردها التجار. وتضع "المالية" بعد مقارنة كلّ المعلومات قوائم بضريبة الدخل المتوجبة بذمّة التجار، والتي دُفعت. وتحديد التكاليف وتصحيحها وفرض الضريبة على كلّ ربح أو إيراد ثبت، بموجب حكم قضائي. وذلك إلى نهاية السنة الميلادية التي تلي السنة التي أُبلغت خلالها الإدارة الضريبية بالحُكم".
أهمية القرار
يأتي وضع الآليات التطبيقية للقانون 240 بعد العديد من المطالبات الرسمية وغير الرسمية للحكومة، آخرها سؤال النائبة حليمة قعقور عن مصير الآلية التنفيذية للقانون، المفترض أن تكون الحكومة قد باشرت تطبيقها قبل أكثر من عامين. وبعد الضغط على الحكومة وإدراكها أهمّية تطبيق القانون الذي يناسب مكافحة الفساد وتهريب الأموال وتحصيل الأموال للمودعين، أصدرت أخيرًا القرار الرقم 11.
يمكن تلخيص أهمّية القرار بثلاث نقاط رئيسية بحسب الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة المحامي كريم ضاهر، وهي:
- يتقاطع مع المادة 93 من قانون موازنة 2024 التي تنصّ على تسديد ضريبة استثنائية بنسبة 17 في المئة على الأرباح المحقّقة من التداول على منصّة صيرفة.
- يتيح لوزارة المال التثبّت من أن التجار الذين استفادوا من الدعم مسجّلون ويصرّحون عن ضرائبهم. وفي حال الإيجاب، ستُظهر المقارنة بين الأموال المدعومة التي حصلوا عليها واللوائح الجمركية، صحّة استعمال الأموال والمبالغ المصرّح عنها على الأرباح، وتسديد الموجبات. وفي حال عدم التصريح الحقيقي عن الأرباح، وإظهار التدقيق عمليات تهرّب واحتيال، فيمكن ملاحقة المخالفين وفق القوانين المنصوص عنها في قانون العقوبات، وفي قانون تبييض الأموال، وفي قانون الإثراء غير المشروع. ويحقّ للدولة أن تستردّ كلّ المبالغ.
يمهّد الطريق لإقرار البرلمان مشروع القانون الذي يرمي إلى فرض ضريبة على من استفاد من سداد قروض بغير قيمتها الحقيقية بعد اندلاع الأزمة أواخر 2019، والذي يترافق مع "مشروع القانون المعجّل المكرّر المقدّم من الحكومة، والذي يرمي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبية المباشرة لتمويل صندوق استرداد الودائع المنوي إنشاؤه".
تخصيص الإيرادات للمودعين
خلافًا للضريبة التخصصية التي ستفرض على كلّ من استفاد من التربّح من صيرفة أو تسديد القروض بغير قيمتها الحقيقية، فإنّ القانون 240 لا يضيف ضريبة جديدة، إنّما يلاحق جنائيًا كلّ المتهرّبين والمتخلّفين عن تسديد الضرائب، ولا سيما الذين استفادوا من الدعم بعد العام 2019. ولأن الأرباح المحقّقة من الدعم، وصيرفة، وتسديد القروض بغير قيمتها الحقيقية، سحبت من حقوق المودعين، فيجب أن تعود إليهم. "ولهذه الغاية وضعنا بأيدي مجموعة من النواب اقتراح قانون ينص على تخصيص الإيرادات المتأتية من هذه العمليات للمودعين"، يقول ضاهر، "إمّا من خلال صندوق استرداد الودائع المزمع انشاؤه بعد إنجاز خطة إعادة الهيكلة وإقرارها، وإمّا من خلال صندوق ائتماني يُنشأ لهذه الغاية في مصرف لبنان، يُخصص للمودعين، ويساعد على زيادة الدفعات الشهرية التي يحصلون عليها راهنًا من خلال التعميمين 166 و158 . وهذا القرار مرحّب به من حاكمية مصرف لبنان".
القانون 240 يُحرج المستفيدين
يمثّل التدقيق الجنائي وفقًا للقانون 240، سيفًا ذا حدين مصلت على رقاب الذين استفادوا من الدعم خلال الفترة الماضية. فمن جهة، لا يستطيع المستفيدون الاعتراض عليه، كما فعلوا مع ضريبة صيرفة لكونه يرتّب ضريبة بمفعول رجعي. مع العلم أنّ الضريبة الأخيرة لم تكن رجعية، إنّما تخصصية تضخّ الربح المتأتّي من أيّ عمل مهني، أو نشاط غير مهني لضريبة الدّخل. وإذا لم يخضع الإيراد، أو الربح المُحقّق غير خاضع لضريبة نوعية أخرى على الدخل، مثل الضرائب على الرواتب والأجور ورؤوس الأموال المنقولة أو الأملاك المبنية، يكون خاضعًا حكمًا لضريبة الدّخل، الباب الأول، وهي تراوح بين 4 و25 في المئة على الأفراد، و17 في المئة على الشركات. ومن جهة ثانية، ستثار الشكوك حول كلّ من يعترض عليه، على أساس أنّه لو كانت عمليات قانونية لما خُشي من التدقيق فيها. فهذا القانون لن يشمل التاجر النزيه الذي استفاد من الدعم، وصرّح عن رقم أعماله وسدّد الضرائب المتوجّبة عليه وفق الأصول.
صحيح أنّ مشوار الوصول إلى دولة الحقّ والمؤسسات والنزاهة طويل، لكنّه ينطلق سريعًا مع الخطوة الأولى، فكيف إذا كانت ثلاث خطوات كبيرة لا تتعلّق بكشف المخالفين وملاحقتهم فحسب، وإنّما تساعد أيضًا على إرجاع أموال المودعين. فـ"في نهاية المطاف، لا يصحّ إلّا الصحيح"، على حدّ قول ضاهر.