في غمرة التطوّرات والتحوّلات، المحسوب منها كما في لبنان، والطارىء كما في سوريا، لا بدّ من مساحة للتبصّر والتفكير الهادىء لدى جميع أطراف الصراع، سواءٌ أولئك الذين حققوا أرباحاً ميدانية وسياسية، أو الذين تعرّضوا لخسائر ومارسوا إنكار الانكسار.
فإسرائيل، المتغاوية بفرض أجندتها العسكرية من خلال البنود القاسية في الاتفاق على وقف النار مع "حزب الله"، تجد نفسها تحت ضغوط دولية تتصدّرها واشنطن حتى بعد وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، بدليل إعادتها إلى بيت الطاعة بعد تفلّتها الأخير من ضوابط وقف النار، وتنفيذها أكثر من 30 غارة جوية على أكثر من منطقة في الجنوب والبقاع، وكان في ودّها قصف الضاحية وبيروت لولا الكبح الأميركي.
وستخضع لمراقبة أشدّ مع انطلاق عمل اللجنة الدولية المسؤولة عن تنفيذ الاتفاق.
هذه الضغوط تبدأ من لبنان وتتوسّع لاحقاً، وبدفع من ترامب نفسه، إلى مرحلة التسويات والحلول بما في ذلك مصير قطاع غزة وبلورة صيغة "اليوم التالي" لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالتزامن مع اتفاقات التطبيع مع الدول العربية، وصولاً إلى التسوية الكبرى مع إيران على خلفية تقليم أظافر نفوذها وانتشارها في الدول العربية الأربع المعروفة، وهذا ما يحصل الآن.
في المقابل، يجد "حزب الله" نفسه ملزَماً بالخروج من حال الإنكار ووهم الانتصار بعدما وقّع عبر الرئيس نبيه بري وعبر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وعبر تصريحات قياديّيه على وثيقة تصفية تنظيمه العسكري من جنوب نهر الليطاني إلى سائر لبنان.
وعبارة تصفية ليست من قبيل التقدير والتمنّي، بل هي من حقيقة نص الاتفاق خصوصاً في مقدّمته الشديدة الوضوح والحاسمة في مسألة تفكيك السلاح ومنع إعادة تجميعه وتنظيمه، عبر تنفيذ القرارات الدولية الثلاثة 1559 و1680 و1701 واتفاق الطائف الذي ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات.
وبات لزاماً على طهران أن تأخذ هذا النص على حقيقته، وتدرك أنها عاجزة عن الالتفاف عليه، فتطلب من "الحزب" التزامه بكل مندرجاته مهما كانت صعبة، لا سيما أنها بدأت تعيد حساباتها بعد تطورات حلب وحماه ودير الزور بما فيها من تغيير موازين وخرائط ميدانية وسياسية لا يصبّ في مصلحتها ومساحات نفوذها.
والواضح أن "حزب الله"، وبعد مرحلة النشوة بشعار الانتصار الذي "يفوق انتصار 2006" على حدّ تعبير أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، بدأ صحوة النزول إلى أرض الواقع، ومعاينة فداحة الخسائر في البشر والحجر بما يصدم العين والقلب، وإحصاء ضحاياه بالآلاف، والانهماك في إحياء آمال بيئته واستنهاضها من الصدمة الحياتية الخطيرة.
العودة إلى أساس نشوء الدولة اللبنانية في ميثاقية الاجتماع اللبناني على قيم الحرية والسيادة والعدل والحق، وعلى مبدأ حياد لبنان عن صراعات المنطقة وحروبها.
وبالتوازي مع هذه الهموم الحياتية الوجودية الضاغطة، يعاني همّاً سياسياً وشيكاً هو إعادة تشكيل الحياة السياسية بدءاً من الاستحقاق الداهم، إنتخاب رئيس للجمهورية وما يليه من إنتاج حكومة دستورية وطنية جديدة وتعيينات محورية في الإدارة والقضاء والأمن، ولا يخفى أنه فقد الكثير من تأثيره ووصايته الطاغية على تشكيلات السلطة.
ففي العناوين العريضة، لقد فقَدَ ميزة فرض رئيسَين للجمهورية والحكومة ومعظم الوزراء وبدعة "الثلث المعطّل" وحكومات "الوحدة الوطنية" الصورية، كما فقد ميزة مصادرة قرار الحرب وتوجيه السياسة الخارجية، وكذلك تهديد القضاء ب"القبع".
غير أنه، حتى الآن، يحاول الاستمرار في إرساء مؤسسات موازية للمؤسسات الشرعية ومنافسة لها، خصوصاً على الصعيدَين الأمني والمالي، متجاوزاً مقتضيات المساواة بين اللبنانيين ومتجاهلاً الحق الحصري لشرعية الدولة، وهذا سيرتّب عليه تبعات وموجبات ليس فقط تجاه سائر اللبنانيين والشرعية بل أيضاً تجاه الرعاة الدوليين العاكفين على متابعة مرحلة نهوض لبنان من أزماته بعد الحرب المدمّرة التي تمّ زجّه فيها خلافاً لإرادة أبنائه، وبعد سنوات من تجويف هيكليات الدولة وتسييب مؤسساتها وامتصاص حيوياتها.
نحن على عتبة مرحلة طالعة ستكون مختلفة جذرياً عمّا سبقها، خصوصاً لجهة ازدواجية السلاح والإمرة والقرار، وليس من السهل التحايل عليها وإجهاضها، وهي تتطلّب شجاعة الاعتراف بوقائعها وحقائقها، لاستعادة التوازنات التاريخية الحقيقة بين المكوّنات اللبنانية، بعيداً من منطق الغلبة بقوة السلاح عبر الارتباط العضوي بأجندا إيرانية باتت معرّضة للقضم والهضم في أكثر من ساحة وميدان.
وطالما أن المشروع الإيراني نفسه يهتز بقوة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وتتحوّل "وحدة الساحات" إلى وحدة انهيارات، فلا بدّ من التقاط فرصة الرشد السياسي، لإعادة نسج علاقات بينية هادئة ومستقرة بين اللبنانيين، على قاعدة التساوي الخلّاق والتفاعل الإنساني في صيغة حياة متطوّرة يكون عنوانها العودة إلى أساس نشوء الدولة اللبنانية في ميثاقية الاجتماع اللبناني على قيم الحرية والسيادة والعدل والحق، وعلى مبدأ حياد لبنان عن صراعات المنطقة وحروبها.