ما إن وضعت الحرب أوزارها، حتّى عاد الحديث عن احتمال تحسّن سعر صرف الليرة ليكبر ككرة الثلج. فالمساعدات السخيّة التي سيتلقّاها لبنان بالعملة الصعبة لإعادة الإعمار، المسبوقة بانتظام العمل السياسي والمؤسساتي، ستزيد ضخّ الدولار في عروق الاقتصاد المتصلّبة وترفع قيمة العملة الوطنية. فعلى ماذا بنيت هذه الفرضية، وهل تصحّ في الحالة اللبنانية؟
بعض الظن، وهو إثم، يقودنا إلى أنّ هذه الفكرة شُكّلت في أحد مطابخ العقلية التقليدية، بحجم لا يتجاوز طابة "البينغ بونغ"، وسُلّمت إلى المؤثّرين من أجل دحرجتها من أعلى جبل ثلج المضاربة لضمان استمرار التوازن بسوق النقد. فالحديث عن احتمال ارتفاع سعر صرف الليرة في المدى القريب، يحفّز البعض، مواطنين عاديين كانوا أو مضاربين محترفين، على بيع جزء من الدولارات المخزّنة، والمقدّرة قيمتها بـ 6 مليارات دولار أقلّه، وشراء الليرات. وذلك على أمل إعادة شرائها عند تراجع سعر الصرف. فيحقّقون ربحًا سهلًا وسريعًا في غضون فترة قصيرة. ولنسلّم جدلًا أنّ سعر الصرف ارتفع إلى 70 ألفًا، فيكسب المضارب ربحًا بقيمة 20 ألف ليرة. وبغضّ النّظر إذا تحسّن سعر الصرف أم لم يتحسّن، فإنّ بيع الدولارات في السوق يساعد على ضمان استقرار سعر الصرف في الوقت الذي توسّع فيه الدولة إنفاقها بالليرة تبعًا لمقتضيات الحرب. والمضاربون الذي سيكتشفون الخدعة البريئة عاجلًا ام آجلًا، لن يخسروا شيئًا، إذ بإمكانهم في ما بعد شراء الدولارات بسعر البيع نفسه. فتكون النتيجة "رابح رابح".
إذا لم تتدفّق المساعدات بالكمية والسرعة المطلوبتين، فإنّ أحلى الخيارات سيكون مرًّا أمام السلطتين المالية والنقدية.
تجربة انفجار مرفأ بيروت
لهذه الفرضية جذور "عائمة" تعود إلى ما بعد انفجار مرفأ بيروت في العام 2020. إذ شهد سعر الصرف تحسّنًا ملحوظًا. فارتفع مقابل الدولار من نحو 10 آلاف ليرة إلى نحو 6700 ليرة، بعد نحو أسبوع على الانفجار. وقد أعاد الكثيرون التحسّن في سعر الصرف إلى تدفق الدولارات من المغتربين إلى ذويهم المنكوبين، ومن الدول بشكل مباشر أو عبر منظمات المجتمع المدني إلى أعمال الإغاثة والتعويض. وقد أتى دخول الدولار الطازج من الخارج وقتذاك في الوقت الذي كان يعاني فيه الاقتصاد شحًّا هائلًا في العملة الصعبة مترافقًا مع طلب كبير نتيجة حالة الهلع من الانهيار.
ثلاث هفوات كبيرة لا يأخذها المروّجون لحتمية تحسّن سعر الصرف بعد الحرب، انطلاقًا من تجربة انفجار مرفأ بيروت:
الهفوة الأولى في الشكل، وتتمثّل في أنّ تدفّق الدولارات بعد انفجار المرفأ أعطى وهمًا زائفًا بتحسّن الأحوال. وسرعان ما عاد الدولار إلى التحليق مع بقاء بقية المؤشّرات الأساسية من دون معالجة جدية، وأبرزها: العجز الكبير في الحساب الجاري. واستنزاف احتياطيات مصرف لبنان. والتوسّع بطبع الليرات. وعدم المضيّ قدمًا في الإصلاحات الجوهرية في القطاعين العام والمصرفي.
الهفوة الثانية، أنّ العامل الأساسي الذي ساعد على تحسّن سعر الصرف كان إصدار مصرف لبنان التعميم الوسيط الرقم 566 في 6 آب 2020، أي بعد يومين على انفجار المرفأ، طلب بموجبه من شركات تحويل الأموال بالوسائل الإلكترونية تسديد التحاويل الواردة من الخارج نقدًا وبالدولار الأميركي حصرًا. وكانت التحويلات قد شهدت خلال العام 2020 تراجعًا دراماتيكيًا فاقت نسبته 70 في المئة نتيجة إلزام مصرف لبنان الشركات بتسديد الحوالات الواردة بالليرة على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة)، في حين أنّ سعر الصرف الحقيقي تجاوز 10 آلاف ليرة. وهذا ما أدّى إلى اعتكاف المغتربين عن إرسال الأموال. ونتيجة فقدان الثقة بالمصارف والتراجع الكبير في أعداد الوافدين بسبب حظر كورونا، تراجعت التحويلات تراجعًا كبيرًا جدًا.
الهفوة الثالثة والأهمّ تتمثّل في التبدل الذي شهده الاقتصاد اللبناني بين العامين 2020 و2024. إذ إنّه أصبح مدولرًا بأكمله، ولم يبقَ للعملة الوطنية أيّ دور يذكر.
الليرة لم تعد مستعملة
الدولرة شبه الكاملة التي شهدها الاقتصاد اللبناني أفقدت الليرة آخر الأدوار التي ظلّت تحتفظ بها بعد الانهيار لفترة وجيزة بكونها وحدة حساب. وكانت الليرة قد خسرت تدريجيًا منذ العام 2020 وظيفتها كمخزن للقيمة، ومن ثم وسيلة للتبادل. و"إن كانت الدولارت التي ستدخل للإعمار ستؤثر على سعر صرف "الفرنك الوسط الإفريقي" - (عملة الكاميرون)، فهي ستؤثّر على سعر صرف الليرة"، تقول الباحثة في الاقتصاد النقدي والدول المدولرة الدكتورة ليال منصور. لتدلّل بطريقة جازمة على أنّه من المستحيل أن يؤدّي تدفّق الدولارات على الاقتصاد اللبناني إلى تحسّن سعر الصرف. فالليرة لم يبقَ لها وجود إلّا في مخيّلة البعض. وجميع العمليات الاقتصادية التي تتم ابتداء من التسعير، مرورًا بتسديد الرواتب للقطاعين العام والخاص، وصولاً إلى مقاصّة الشيكات بحسب التعميم 165 تتمّ بالدولار الأميركي. ولم تعد الليرة أكثر من فكّة للدولار في حال عدم توفّره. تُضاف إلى ذلك ثلاثة عوامل أساسية بحسب منصور، وهي:
- اعتماد سعر صرف ثابت وليس عائمًا ليتغير بحسب العرض والطلب.
- تخصيص الدولارات لإعادة الإعمار وليس لوضعها في مصرف لبنان.
- فقدان أهداف تحسين العملة الوطنية لكونها لم تعد مستعملة.
وتعتقد منصور أنّ "السياسة النقدية" مقتنعة بأنّ الليرة أصبحت شكلية، ولا داعي لبذل الجهود المالية أو المحاسبية لتحسينها لأنّه لم يعد إحياؤها ممكنًا.
على الرغم من فقدان العملة الوطنية لدورها، فإنّ عودة ضخّ الليرات في السوق لتلبية متطلّبات الإغاثة والإعمار والتعويضات بعد الحرب، سواء من الخزينة العامّة التي تملك قرابة 500 ألف مليار ليرة (5.5)، أو من خلال العودة إلى طبع النقود لتمويل النفقات سيعيد الضغوط على سعر الصرف. هذا من دون التطرّق إلى خطّة توزيع الخسائر، وما سيرافقها من ليلرة هائلة للودائع. وقد عمد مصرف لبنان في الآونة الأخيرة إلى ضخّ حوالى 500 مليون دولار في السوق من خلال توسعة الاستفادة من التعميمين 158 و166، والاستمرار في تسديد رواتب القطاع العام بالدولار. ومن البديهي أنّ نقص الدولار في السوق بالتوازي مع ازدياد الطلب عليه لن يكون صحّيًا، لا للاقتصاد، ولا لمالية الدولة، ولا لسياسة مصرف لبنان بمراكمة الاحتياطيات. وإذا لم تتدفّق المساعدات بالكمية والسرعة المطلوبتين، فإنّ أحلى الخيارات سيكون مرًّا أمام السلطتين المالية والنقدية.