الإعمار مسؤولية الدولة أوّلًا وأخيرًا

كان لافتًا في الكلمات السياسية التي أعقبت توقّف إطلاق النار عدم مرور المسؤولين بإعادة الإعمار، أقلّه على نحو يناسب حجم الدمار. وهم، إن كانوا قد دعوا الجنوبيين إلى العودة سريعًا إلى مناطقهم، فلم يحددوا مصير مساكنهم، ولم يتطرّقوا إلى كيفية إعادة ترميم البنى التحتية. وقد اقتصرت الكلمات على العموميات من دون الدخول في التفاصيل التي يتحرّق المهجرون شوقًا إلى سماع ما يبرّد قلوبهم ويخفّف من معاناتهم.

ربّ قائل إنّ هذه التفاصيل لا تدرج في الخطب العامة، وهذا مفهوم، إن لم يكن صحيحًا أو حتى صحيًا في مثل هذه الظروف. إنّما المشكلة تكمن في عدم وجود خطّة واضحة وصريحة لإعادة الاعمار، خارج الخطب، تتضمّن توزيع المسؤوليات، وتأمين التمويل، وتحديد الفترة الزمنية والإشراف على التنفيذ. وذلك على الرغم من نشوب الحرب منذ سنة ونيف، ووعي المعنيين بأنّها ستتوقّف آجلًا إن لم يكن عاجلًا. ومع هذا لم يبادر أحد إلى وضع خطة بهذا الشأن، واقتصر الموضوع على إطلاق نائب رئيس الحكومة الوزير سعاده الشامي فكرة صندوق لإعادة الإعمار من مقرّ الهيئات الاقتصادية.

مسؤولية الدولة

تنقسم مهمّة الإعمار شقّين عريضين، هما: التنظيم والتمويل. غيابهما لم يقتصر إلى اللحظة على تحديد المسؤوليات بدقّة ووضوح، وإنّما تعداهما إلى "انتظار المجتمع الدولي استعادة الدولة هيبتها. ولعبها دور المرجعية الوحيدة الجامعة لكلّ اللبنانيين، وتأطير قدرتها على ترميم سلطتها، وإعادة بسطها على كلّ الأراضي اللبنانية"، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور وليد صافي. "فبسط السلطة لا يكون بالأمن وحده، وإنّما أيضًا بالاجتماع والتنمية". فإذا انتُخب رئيس جامع للجمهورية لا يشكّل تحديًا لأحد، ومتوافق عليه من جميع الأطراف، وشُكّلت حكومة قادرة تحظى بثقة مختلف مكوّنات البرلمان، وثُبّت الالتزام بالورقة الأميركية، فسيكون التمويل متعذرًا. خصوصًا من الدول العربية التي لطالما وقفت إلى جانب لبنان في محنه.

القدرة التنظيمية

التسليم جدلًا بإمكان توفّر التمويل اللازم وبالكمّية والسرعة المطلوبتين من المساعدات الخارجية، يجب أن يقابله اضطلاع الدولة بمؤسساتها المختلفة كجهة وحيدة مسؤولة عن إعادة الاعمار"، يشدّد صافي. ولو أنّ هناك آراء في البلد تنادي بتحييد الدولة عن المهمة كونها لم تكن شريكًا في قرار الحرب، ولا سيما في ما يتعلّق بتسديد جزء من التعويضات.

تنظيميًا، يمكن الاستفادة من تجربة إعادة الإعمار عقب انتهاء حرب تموز 2006، في ما خصّ ترميم البنى التحتية العامّة. إذ انقسمت المسؤوليات بين الجهات العامّة، وتولّت وزارات ومؤسسات إعادة الترميم والإعمار في المناطق المتضرّرة. وأهمّها: "مجلس الإنماء والإعمار الذي يمكنه أن يضطلع بدور كبير في عملية ترميم البنى التحتية أو إعادة بنائها"، برأي صافي. "ووزارة الأشغال العامّة والنقل المسؤولة عن رفع الأنقاض وفتح الطرق والمعابر، وترميم الجسور التي تهدّمت بفعل القصف، ويمكنها أيضًا الاضطلاع بمهمّة بناء المدارس والمؤسسات العامة، بسبب تضمّن هيكلها التنظيمي مديرية المباني. وهناك مجلس الجنوب الذي يمكن أن يلعب دورًا في إعادة ترميم المدارس جنوبًا أو بنائها. وهو المجلس الذي كان معنيًا خلال السنوات الماضية بهذه المهمة، ولديه كلّ الخرائط". وتتدرج المسؤوليات "بحسب حجم الضرر وليس الموقع الجغرافي"، يضيف صافي. "فالأضرار الكبيرة يتولّاها "الإنماء والإعمار" الذي يمتلك خبرات غير متوفرة في وزارة الأشغال، من ثمّ وزارة الأشغال، ومن بعدهما مجلس الجنوب".

المساكن الخاصة

أما في ما خصّ المساكن، فمن الأفضل أن "تتجمّع كلّ الأموال المتأتية في صندوق واحد، مهمّته توزيع الموازنات على المؤسسات المعنية بإعادة الإعمار بحسب نطاق عملها" برأي صافي. "ويكون الإنفاق تحت رقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، لكون الشفافية المالية مهمّة جدًا في هذه المرحلة لاستعادة ثقة وتمويل الخارج. فالمؤسسات الدولية فاقدة الثقة بالدولة، وتحصر تمويلها بمنظمات الأمم المتحدة وجمعيات المجتمع المدني المحلّية والدولية". وقد قامت بشكل مستقل خلال السنوات الماضية بإنشاء مشاريع تنموية تتعلق بالإسكان والنفايات والصرف الصحي والمياه وغيرها من مشاريع البنى التحتية، عبر منظماتها العاملة في لبنان بشكل مباشر. "ومن غير المحبّذ قيام جهات خاصّة بإعادة الإعمار على غرار ما حصل عقب حرب تموز 2006. ومن المفترض بالقياس إلى التجارب السابقة، وحجم الدمار الهائل في مختلف المناطق، وعدم انحصار الأضرار كما العام 2006 بمناطق محددة جغرافيا، أن يكون الإنفاق مركزيًا من خلال الصندوق المزمع إنشاؤه"، من وجهة نظر صافي. "وتتكوّن موارد الصندوق بشكل أساسي من التقديمات التي حصل عليها لبنان من مؤتمر المانحين في باريس والمقدّرة بـ 800 مليون دولار، إضافة إلى الأموال التي يجب أن تجمع في مؤتمر مخصّص للإعمار بعد التوصّل إلى إعادة تشكيل الدولة سياسيًا، ووجود جهات تحظى بثقة المجتمع الدولي ودعمه".

الإعمار والمخالفات

من الإشكاليات التي تطرح في الشقّ التنظيمي هي كيفية التعامل مع المباني المهدّمة المخالِفة أساسًا لأصول البناء والتنظيم المدني، والتي تتضمّن تعديات على الملكين العام والخاص. وتبرز مثل هذه الحالات بشكل كبير في الضاحية. وبحسب صافي فإنّ "العجلة والضرورة، ستغلبان الأصول. وإذا تبيّن أنّ الوحدات السكنية متعدّية، فيجب عدم تشييدها من جديد مع التشديد على تأمين البدائل للمواطنين. إذ يجب أن لا يترك أي مواطن من دون مسكن".

إعادة الإعمار يجب أن تبقى أولًا وأخيرًا من مسؤولية الدولة، إذا أردنا العيش في بيئة آمنة وعادلة، لا تميز بين مواطنيها، ولا تشعر فيها أيّ فئة بالغلبة أو التهميش أو التقصير تجاهها. والأهمّ، أنّه من دون وجود هذه الدولة، لن يكون هناك تمويل كاف. وسيعجز الكثيرون عن تأمين أبسط حاجاتهم البديهية. وسنخرج بالتالي من حرب ساخنة إلى حرب اجتماعية واقتصادية باردة، أطول وأقسى بما لا يقاس. وهذا ما يهدّد كلّ الأسس التي تبنى عليها الدول بالاضمحلال. ولن يكون ذلك من مصلحة أحد.

غدًا، نستشرف كيفية تعويض الخسائر غير المباشرة التي شملت القطاعات، وما العمل لإعادة تفعيل عجلة النمو التنمية.