الأموال العامّة شحيحة والمساعدات الدّوليّة تفتقد الشهيّة


عاد "همّ" إعادة الإعمار، بعدما "أفرج" سريان وقف إطلاق النار عن اقتصاد لبنان. انتهاء القصف بعد عام وخمسين يومًا سيحرر الاقتصاد المنهك من سجن الحرب الصغير، ويُدخله مجدّدًا إلى سجن الانهيار المالي والنقدي الكبير. سيخرج الاقتصاد "معلّقًا لسانه بسماء حلقه"، على حدّ قول المثل. لا أموال نقدية، ولا قروض مصرفية وانكماش هائل، ولا بوادر لمساعدات وازنة خارجية، وكل ليرة ستصرف لإعمار ما تهدم سيُحسب لها ألف حساب، كي لا يصيبنا ما أصاب من "فعل خيرًا لقي شرًا".

تتطلّب التعويضات على مختلف أنواعها وأحجامها تقديرًا دقيقًا لحجم الخسائر، وهذا ما يبدو إلى اللحظة متعذرًا. ففي حين يقدّر البنك الدولي الخسائر إلى 15 تشرين الثاني الجاري بـ 8.5 مليار دولار، يصرّ وزير الاقتصاد أمين سلام على أنّ الخسائر تتجاوز 20 مليارًا. فيما تقدّر "الدولية للمعلومات" حجم الخسائر بـ 10 مليارات دولار للفترة الممتدة من 8 تشرين الأول 2023 إلى نهاية 31 تشرين الأول 2024. ورغم الاختلاف الواضح بالارقام، فإن مختلف التقديرات تتفق على أن حجم الاضرار المادية هو الأكبر. ولم يتم إلى الآن إحصاء الخسائر المادية للفترة الممتدة من أول تشرين الثاني إلى فجر 27 منه، وهي الفترة التي شهدت أعنف الهجمات وأكثرها ضررًا في جميع المناطق عمومًا، وبيروت خصوصًا.

حجم الخسائر المادية إلى 27 تشرين الثاني

تنقسم الأضرار المادية 5 أقسام رئيسية، وهي:

- خسائر البنى التحتية، أي الأضرار التي لحقت بالطرق ومحطّات المياه ومحولات الكهرباء وشبكة الاتصالات وتقدّر "الدولية للمعلومات" حجم الأضرار بـ 570 مليون دولار، إلى 31 تشرين الأول. ومن المتوقع أن تكون قد تجاوزت 600 مليون دولار.

- خسائر في المساكن الخاصة، التي من المتوقع ان تكون قيمتها 6 مليارات و570 مليونًا إلى 27 تشرين الثاني. فالخسائر المحققة في هذا القطاع بلغت 3 مليارات و850 مليون دولار من 17 أيلول إلى 31 تشرين الأول، أي خلال 45 يومًا. وعليه، يصبح من المقدّر أن تكون الخسائر خلال 27 يومًا من تشرين الثاني، حوالى ملياري و310 ملايين دولار. ويضاف هذا الرقم إلى الخسائر المحقّقة منذ 8 تشرين الأول 2023 إلى 17 أيلول، والتي بلغت 409 ملايين دولار.

- كلفة رفع الأنقاض مقدّرة بـ 390 مليون دولار إلى 31 تشرين الأول بحسب "الدولية للمعلومات"، ويتوقّع أن ترتفع، بحسب، توقّعاتنا إلى 600 مليون دولار، أي بزيادة حوالى 200 مليون دولار خلال تشرين الثاني.

- أضرار المؤسسات تقدّر بحوالى 470 مليون دولار، بحسب "الدولية للمعلومات" إلى 31 تشرين الأول، ومن المتوقّع أن يتجاوز هذا الرقم أيضًا 600 مليون دولار.

- خسائر الزراعة والبيئة مقدّرة بحسب "الدولية للمعلومات" بـ 900 مليون دولار إلى 31 تشرين الأول، وكذلك من المتوقّع أن تتجاوز المليار دولار إلى 27 تشرين الثاني.

مجمل الخسائر المادية ستتجاوز فيما لو أضفنا إليها خسائر تشرين الثاني 9.3 مليار دولار، فمن أين ستؤمّن أموال التعويضات وإعادة الإعمار؟

تملك الدولة اللبنانية في حسابها الرقم 36 في مصرف لبنان قرابة 6 مليارات دولار بحسب آخر المعطيات المتوفرة. ومن البديهي أنّها لا تستطيع التعويض على المتضررين، ولو بجزء بسيط لخمسة أسباب رئيسية:

- القيمة الكبرى من إيرادات الدولة هي بالليرة اللبنانية، وتقدّر قيمتها بنحو 5.4 مليار دولار، والتوسع في انفاق هذه الأموال سيولّد طلبًا كبيرًا على الدولار، ويعرّض استقرار سعر الصرف للاهتزاز.

- المبلغ المتبقّي من الإيرادات بالدولار والمقدر بـ 600 مليون دولار، عدا أنّه غير كافٍ، فمن غير المؤكد إذا كان المبلغ كلّه بالدولار النقدي أم أنّ بعضه عبارة عن دولار محاسبي.

- وجود فجوة في النظام المالي تقدّر بحوالى 76 مليار دولار، يضاف إليها دين خارجي بقيمة تتجاوز 40 مليار دولار هي عبارة عن سندات اليوروبوندز مع فوائدها. ويتوجب على الدولة بعد انتهاء الحرب إيجاد حلّ لها، عبر إقرار خطة توزيع الخسائر. وبناء على ما سبق من خطط، فإنّ الحل سيكون بليلرة الودائع وهو ما سيخلق كتلة نقدية هائلة بالليرة سنويًا في السوق اللبنانية. ويمنع بالتالي من مراكمة المزيد من النفقات بالليرة سواء كانت من الإيرادات المحققة أو من خلال التمويل من طباعة النقود.

- اقتراض الدولار من مصرف لبنان بسلف، على غرار ما كان يحصل سابقًا، ممنوع، لأنّ ما تبقى من الاحتياطيات هو عبارة عن توظيفات إلزامية بالنسبة الكبرى منها، وهي أموال خاصّة وحق حصري للمودعين ولا يجوز التصرف بها إطلاقًا.

- تسييل احتياطي الذهب المقدرة قيمته، بحسب آخر الأرقام، بأكثر من 23.6 مليار دولار، يهدد بانعدام الثقة بالاقتصاد وفقدان العملة الوطنية آخر مكامن الثقة. وسيترافق التسييل، إنْ حصل، مع انكماش اقتصادي مقدر من البنك الدولي بأكثر من 36 في المئة، وتوقّع مؤسسة التمويل الدولية أن يرتفع العجز في ميزان المدفوعات بنسب لا تتدنى عن 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى العام 2026. وهذا ما يعني فعليًا خسارة في الحساب الجاري تراوح بين 3.5 و4 مليار دولار.

المساعدات الدولية

لا يبقى إلّا المساعدات الخارجية، ذلك أنّ الاقتراض متعذّر بسبب تخلّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها وتراجع تصنيفها الائتماني إلى درجة "التخلف المقيد" (RD) من أبرز وكالات التصنيف العالمية (فيتش، ستاندر آند بورز، وموديز). وإدراجه أخيرًا على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي - "فاتف". وعدم توصّله إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. لكلّ هذه الأسباب، فإنّ الحلّ الوحيد بالمساعدات المالية المباشرة سواء كان عبر الدولة، أو بتنفيذ من الدول المانحة بنفسها لإعادة الإعمار. وهذا ما يبدو أيضًا إلى اليوم متعذرًا. إذ يُفهم مما نشر من مقالات في صحف عربية صباح أمس، ما معناه أنّ الدول ليست جمعيات خيرية لتدفع ثمن خيارات جزءًا من اللبنانيين. خصوصًا أنّها سبق أن عمرت في العام 2006 عقب حرب تموز.

تعذّر وصول المساعدات الوازنة لن يكون لأسباب سياسية فقط، وإنّما اقتصادية ووقتية أيضًا. فالمجتمع الدولي يصر على تحقيق لبنان الإصلاحات الأساسية في المالية العامة وإعادة هيكلة المصارف والقطاع العام والمؤسسات الأساسية مثل الكهرباء ومكافحة الفساد، قبل إعطائه أيّ قرش. إذ كيف يساعد أحد دولة متّهمة بعدم الشفافية، ومصنّفة في المرتبة 200 من أصل 213 دولة عالميًا على مؤشر الحوكمة الرشيدة. وعلامتها على مؤشر مدركات الفساد للعام 2023 هي 24/100 وتحتل المركز 149 من أصل 180 دولة خضعت للتقييم. كذلك لن يتشجّع أحد على ضخّ الأموال لإعادة الإعمار ما دامت المعادلة وقفًا لإطلاق النار، وبعد التثبّت من أنّ الهدنة طويلة الأمد.

إزاء كلّ ما تقدّم، يبدو أنّ طريق إعادة الإعمار سيكون صعبًا، ولكنّ ليس مستحيلًا. وسنستعرض في الحلقة الثانية الوسائل من داخل الصندوق وخارجه لكيفية استعمال الدولة اللبنانية مواردها البشرية والطبيعية بفعالية من أجل إعادة الإعمار سريعًا وبشكل شفاف ونظيف.