خلافًا لما كان منتظرًا من عودة له إلى بيروت، غادر الموفد الأميركي آموس هوكستين تل أبيب إلى واشنطن، ما دلّ إلى أنّ محادثاته مع المسؤولين الإسرائيليين في المقترح الأميركي لوقف النار وتنفيذ القرار 1701 وردّ لبنان عليه لم تحقّق نتائج ملموسة.
وكان من المتوقع أن لا يحقّق هوكستين أيّ خرق في الموقف الإسرائيلي، ودلّ إلى ذلك ما قاله للصحافيين قبيل مغادرته بيروت إلى تل أبيب بعد لقاء ثان له مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولم يتنبّه إليه كثيرون من أنّه "يمكن القول إنّنا أنجزنا تقدّمًا في المفاوضات بين إسرائيل ولبنان، وسنعالج مع الإدارة الأميركية الجديدة الأمور كافة، وسوف نمشي خطوة تلو أخرى ونعمل عن كثب مع الإدارة في لبنان وإسرائيل وسنطلعكم على ما نتوصل إليه".
كلام هوكستين هذا عن "العمل مع الإدارة الأميركية الجديدة" أوحى، في رأي المصادر المواكبة للمفاوضات، أن لا حلّ في لبنان قبل تسلّم هذه الإدارة مسؤوليّاتها، أقلّه حتى 20 كانون الثاني عندما يتسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب مقاليد الرئاسة رسميًا ودستوريًا.
ولم يعرج هوكستين على باريس في طريق عودته إلى واشنطن، إذ كان مقررًا أن تكون محطّته النهائية ليعلن مع الجانب الفرنسي الاتفاق لو تمّ التوصّل إليه، ولكنّه فوجئ في تل أبيب باعتراضها على أن يكون لفرنسا دور في هذا الاتفاق، وعلى أن تكون عضوًا إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية في اللجنة المقترحة للإشراف على تنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 بعد استبعاد ألمانيا وبريطانيا منها، إذ رفضها لبنان عضويتهما في هذه اللجنة، وكان الاتفاق بين لبنان وهوكستين على عضوية واشنطن وباريس فقط، بحيث تنضمان إلى اللجنة الثلاثية المنصوص عنها في القرار والتي تجتمع عادة في الناقورة منذ صدوره، وهي تضم لبنان وإسرائيل وقيادة قوات "اليونيفيل" فتكون ثلاثية حينًا وخماسية عندما تدعو الحاجة، في إطار الإشراف على تنفيذ القرار الدولي ومعالجة أيّ إشكالية تحصل في هذا الصدد.
لكنّ التصعيد الإسرائيلي الذي ارتفع منسوبه ولا يزال، أثناء وجود هوكستين في تل أبيب وبعد مغادرته لها، دلّ، في رأي الأوساط المتابعة، إلى أنّ نتنياهو لا يريد وقف إطلاق النار، وإنّما الاستمرار في الحرب بغية تحقيق أهدافه منها، أو على الأقلّ، ربّما يريد أن يعطي نفسه فترة زمنية إضافية لتحقيق تقدم عسكري ميداني، والضغط لتنفيذ القرار 1701 بشروطه وأبرزها أن تكون لإسرائيل "حرية الحركة" في لبنان، إذا وجد أن حزب الله لم ينسحب إلى شمال الليطاني واستمر في التسلّح، وأن تكون لجنة الإشراف على التنفيذ أميركية ـ فرنسية ـ بريطانية ـ ألمانية، بالإضافة إلى دولة عربية (قد تكون الأردن أو قطر).
ويقول زوار العاصمة الفرنسية نقلًا عن مسؤولين فرنسيين أن نتنياهو لن يوقف الحرب إلّا إذا تعرّض لضربة عسكرية أو سياسية موجعة، وهذه الضربة مرجّحة في رأيهم، على رغم كلّ تصعيده العنيف ضد حزب الله وبيئته، وكذلك تصعيده في قطاع غزة، وأنّ أمر الاعتقال الذي صدر بحقّه وبحقّ وزير دفاعه المقال يوآف غالانت عن المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، ما كان ليصدر، لو لم يكن هناك ضوء أخضر ما في مكان ما أميركيًا أو غربيًا للمحكمة، وذلك بغية لجمه عن التصعيد ودفعه الى القبول بوقف إطلاق النار كما في غزة تحت طائلة الضغط عليه والوصول إلى حدّ إطاحة حكومته إذا لم يرتدع. علمًا أنّ الموقف الأميركي الذي انتقد المحكمة ونال من صدقيّتها، ربما يكون من باب المناورة التي غالبًا ما مارسها الغرب، وعلى رأسه الأميركي إزاء قضايا مشابهة قبل أن يثبت لاحقًا أن هذه المناورة كانت على قاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة".
على أنّ بعض زوار باريس ينقلون عن مسؤولين فرنسيين خشيتهم من أنّ نتنياهو إذا أوقف إطلاق النار في لبنان ودخل في تسوية معه سيرتد إلى الضفة الغربية ليهيىء الظروف لطرح ملفّ ضمّها إلى إسرائيل، خصوصًا أنّه كان صدر عن مكتبه كلام إثر فوز ترامب بالرئاسة الأميركية من أنّ هذا الملف سيكون الملفّ الأول الذي سيطرحه نتنياهو على الرئيس الأميركي الجديد، في الوقت الذي أعلن الوزير اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش "أنّ عام 2025 سيكون عام ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل". وهذا الأمر إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ إلى أنّ إسرائيل لن تقبل بـ"حلّ الدولتين" حسب اتفاقات اوسلو وغيرها بينها وبين السلطة الفلسطينية، والذي لطالما أعلنت الإدارة الأميركية تأييدها له.
ما يخطّط له نتنياهو من حرب تتجاوز لبنان إلى المنطقة حتّى لو تطلّب الأمر شنّ حرب على إيران
ومع ذلك يكشف زوار باريس نقلًا عن بعض المسؤولين الفرنسيين أنّ هوكستين فشل في مهمّته الأخيرة في تل أبيب، وعلى رغم أنّ نتنياهو طلب تأخير البحث في الاتفاق على وقف النار إلى مرحلة لاحقة لأنّه يخطّط على ما يبدو لتنفيذ أشياء في الميدان لتعزيز موقفه التفاوضي، وعندها استنتج هوكستين أنّه لا يريد وقف النار، وأنّه يتهرّب من المقترح الأميركي الذي كان أبلغ إلى الأميركيين موافقته المبدئية عليه، ما دفع واشنطن إلى إيفاد مبعوثها إلى بيروت وتل ابيب. وفي ضوء هذه المعطيات تولّد لدى الفرنسيين اقتناع بأنّ نتنياهو لن يرتدع عمّا يقوم به إلّا بتطور ميداني أو سياسي، باتوا يتوقّعون حصوله في أيّ وقت.
على أنّ الإعلام الإسرائيلي وقبل زيارة هوكستين لبيروت وأثناءها وبعدها ظلّ يردّد سردية الشروط الإسرائيلية لوقف النار نفسها، على رغم ما شاع عن تفهم هوكستين للموقف اللبناني وتأييده لجنة الإشراف على تنفيذ القرار 1701 بثنائيتها الأميركية ـ الفرنسية وخماسيتها اللبنانية ـ الدولية ـ الإسرائيلية ـ الأميركية ـ الفرنسية، وذهب بعض هذه الوسائل الإسرائيلية إلى الجزم بأنّ الاتفاق الى وشك الحصول خلال أيام، خصوصًا أنّ هوكستين ظلّ على تواصل دائم مع تل أبيب طوال اليومين اللذين أمضاهما في بيروت وسمع منها أصداء مشجعة على الاستمرار في مسعاه دفعته إلى التصريح في اليوم الأول من زيارته للبنان بأنّ "الحلّ بات قريبًا من أيدينا" ليكتشف لاحقًا عند وصوله إلى تل أبيب "أنّ روما في لبنان هي غيرها في إسرائيل"، وذلك في ضوء اجتماعاته بالمسؤولين الإسرائيليين المعنيين من نتنياهو إلى وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ووزير الدفاع يسرائيل كاتس ورئيس الأركان هرتسي هاليفي ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت.
وثمّة من يعتقد أنّ النصيحة التي تلقّاها بعض المسؤولين اللبنانيين بعدم الإفراط في التفاؤل إزاء إمكانية حصول وقف إطلاق النار، كانت مبنية على معرفة الناصحين المسبقة بحقيقة النيات الإسرائيلية، وإدراكهم ما يخطّط له نتنياهو من حرب تتجاوز لبنان إلى المنطقة حتّى لو تطلّب الأمر شنّ حرب على إيران سعيًا إلى إقامة "إسرائيل الكبرى" من النهر إلى البحر بعد ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إليها، وهو الأمر الذي بدأت حكومته المتطرفة تجاهر به، وكأنّه ردّ منها على القمّة العربية ـ الإسلامية التي عُقدت أخيراً في الرياض حيث تمسّكت بقيام دولة للفلسطينيين على أساس "حلّ الدولتين" ومبادرة السلام العربية بحيث تكون عاصمتها القدس الشرقية.
وفي هذا الصدد، يشدّد كثيرون على أهمّية الموقف السعودي الذي عبّر عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في افتتاح القمة العربية الإسلامية عندما تمسك بحل يضمن للفلسطينيين إقامة دولتهم المستقلة وعاصمة القدس الشرقية.
ولكنّ بعض الأوساط المطّلعة تراهن على دور سعودي ـ إيراني مشترك وفاعل في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة إزاء كلّ القضايا العربية والإسلامية المطروحة، في اعتبار أنّ قمّة الرياض الأخيرة كانت هندستها سعودية ـ إيرانية مشتركة. ففي الوقت الذي تحدّث ولي العهد السعودي عن "الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة" مدينًا أيّ اعتداء عليها، أكّد نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية مجيد تخت روانجي في حوار مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية لدى زيارته الرياض قبل أيام للمشاركة في الاجتماع الثاني للجنة الثلاثية السعودية والصين وإيران لمتابعة "اتفاق بكين" بين الرياض وطهران، "أنّ إيران والمملكة العربية السعودية تسعيان إلى إرساء السلام الدائم في منطقة متنامية ومستقرة، وهذا يتطلّب تعزيز التعاون الإقليمي من خلال التغلّب على التهديدات الراهنة." وأكّد "أنّ تصرفات إيران والمملكة العربية السعودية هي مثال ناجح للتعاون الدولي الثنائي والمتعدد الأطراف في إطار التنمية وإرساء السلام وإحلال الأمن في المنطقة والعالم". وشدّد على "أنّ إيران والمملكة العربية السعودية دولتان شقيقتان وجارتان بينهما الكثير من القواسم المشتركة، وعلاقاتهما الوثيقة ستخدم مصالح المنطقة بأكملها".