ما أشبه اليوم بالأمس. سيدات ورجال أعمال جدد ومخضرمون، يحاولون فتح كوّة في جدار الأزمات لإيصال "الأوكسيجين" إلى الدولة. في الأمس القريب، وضعوا خطًّا أحمر تحت القطاع الخاص، وأطلقوا حملة "مش دافعين" لحضّ الدولة على القيام بالإصلاحات عقب ثورة 17 تشرين. بعد ذلك، "شمّروا" عن سواعدهم لرفع أضرار انفجار المرفأ وجذب المساعدات وإعادة إعمار ما تهدم. ولم يلبثوا أن داووا جراحهم حتّى رفعوا الصوت لوقف الدعم، وفوضى سعر الصرف واستئثار قلّة بما تبقى من خيرات تعود إلى الجميع. ولم يكد هؤلاء يلتقطون أنفاسهم حتّى نشبت الحرب فأعادت قطاعاتهم المتنوعة إلى عشية الانهيار. فتراجع الاستهلاك، وانخفض التصدير وأقفلت مؤسسات، وعجزت مؤسسات عن دفع الرواتب أو جزء منها، وابتعدت الاستثمارات، وغاب التمويل.
تتنوّع الأزمات ويبقى السبب واحدًا برأي "شبكة القطاع الخاص اللبناني"، وهو عجز الدولة عن فرض سيادتها على مؤسساتها وأجهزتها. وهذا ما يسبّب الفوضى المالية والأمنية والقضائية والاجتماعية... فيتقوّض الاستقرار وينعدم الازدهار. وللخروج من هذه الدوامة، رأت "الشبكة" في مؤتمر صحافي أنّ لا بديل من "مطالبة حكومة تصريف الأعمال باتخاذ إجراءات فورية تستند إلى دعم دولي عاجل لمساعدة لبنان على استعادة سيادته الكاملة. على أن يتم تحقيق الاستقرار والازدهار عبر تفعيل أجهزة الدولة وإعادة تكوين مؤسساتها".
الدبلوماسية الاقتصادية
على مدى السنوات الماضية، جرّب القطاع الخاص اللبناني أكثر من طريقة لوقف الانهيار وضمان استمراره. حاول أن يعزل نفسه عن الدولة ومشكلاتها، على قاعدة أنّه لا يطلب منها المساعدة، بل عدم عرقلته، فلم يفلح. عقد المؤتمرات الصحافية الصاخبة والهادئة واللقاءات الجامعة لكلّ أقطاب الإنتاج من عمّال واصحاب عمل، للتشديد على أهمية التقيّد بالمواعيد الدستورية في الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومات، فلم يوفّق. ناشد المسؤولين خلال زيارات شخصية وقف الحملات العدائية على الدول الشقيقة والصديقة، فخاب أمله. أجرى اللقاءات مع النواب والمسؤولين لتعديل القوانين وتحديثها وجعلها أكثر ملاءمة لقطاعات الأعمال، فأهمل بعضها، وأقرّ بعضها الآخر من دون أن يمضي في طريقه إلى التطبيق. ولنا في قانون الشراكة، وانتاج الطاقة المتجدّدة والموزّعة، والمنافسة، والشراء العام وغيرها العديد من الشواهد. واليوم، يحاول بعض القطاع الخاص إطلاق "الدبلوماسية الاقتصادية"، ويناشد المعنيين تطبيقها.
الدبلوماسية الاقتصادية، وإن كانت تعني بالتعريف العام "استخدام الدولة مقدراتها الاقتصادية في التأثير على الدول الأخرى وتوجيه سلوكها السياسي في الاتجاه الذي يخدم المصلحة القومية لهذه الدولة"، فإنّ ما تقصده شبكة القطاع الخاص من هذا المفهوم هو: التعاون مع القطاع الخاص، وتحقيق علاقة منفعية تبادلية، والتواصل مع الاغتراب وتحسين العلاقات مع دول العالم وفرض الدولة هيبتها على مختلف الصعد. إذ يمكنها الوصول إلى هذه الأهداف بالترغيب أو الفرض، وهما حق سيادي لأيّ دولة مكتملة العناصر. إلّا أنّ السؤال، لماذا سيكتب للدبلوماسية الاقتصادية "الملبننة"، النجاح، فيما كان الفشل من نصيب كلّ ما سبق؟
يقترح القطاع الخاص تنفيذ خطة مارشال لإعادة الإعمار بعد الحرب.
مطالب الشبكة
الجواب بسيط، برأي مطلقي المبادرة: لأنّه لن يعود هناك لبنان. صحيح أنّ البلدان لا تختفي عن الخرائط بهذه السهولة، وإنّما تفقد كلّ مقوماتها، ويفقر شعبها، وتتحوّل إلى شريعة الغاب فيروح القوي يأكل الضعيف، وتُمنع عنها المساعدات البناءة، وتنعدم الاستثمارات، ويضؤل اقتصادها، وتهجّر مؤسساتها، ويقفل بعضها الآخر، ويزداد الفقر والبطالة، وهما العاملان اللذان يؤديان إلى تفاقم المشكلات، وبالتالي تصبح الصراعات الإثنية والاقتصادية والاجتماعية هي سمتها الغالبة، بغياب أيّ دور فعّال للدولة والمؤسسات.
للحؤول دون الوصول إلى هذه المرحلة المرئية بشكل واضح من أكثرية القطاع الخاص، طالبت الشبكة بتحقيق مجموعة من الإجراءات فورًا، وهي:
- تنفيذ قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وضمان التنفيذ الكامل لهذه القرارات واحترام التشريعات الدولية والوطنية.
- تنفيذ اتفاقية الهدنة لعام 1949: يجب العودة فورًا إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949 للحؤول دون الاقتتال من خلال الدبلوماسية. كذلك يجب التوصّل إلى وقف فوري لإطلاق النار، وذلك بدعم من المجتمع الدولي للتوصل إلى حالة السلم الطويلة الأمد.
- حماية سيادة لبنان بواسطة الجيش اللبناني: يتعيّن على الجيش ضبط جميع الحدود الشرعية والمعابر غير الشرعية، فضلًا عن ضبط الموانئ والمطارات، والانتشار في جنوب لبنان حتى الخط الأزرق. وعليه أيضًا منع تدفق الأسلحة إلى الأطراف المسلحة كافة.
- انتخاب رئيس للجمهورية من دون تأخير: يجب على المجلس النيابي أن يجتمع فورًا لانتخاب رئيس للجمهورية تمهيدًا لاستعادة السيادة والسلطات وإعادة بناء مؤسسات الدولة. إنّ استمرار كيان لبنان يعتمد على التزام هذا الواجب الدستوري الذي يتيح تشكيل حكومة قادرة على معالجة تداعيات الصراع المسلحّ والتفاوض على وقف إطلاق النار، بالإضافة الى تأمين اتفاقيات طويلة الإجل.
- العودة إلى التموضع التاريخي للبنان على الصعيدين العربي والدولي: يجب على لبنان إعادة بناء علاقاته التاريخية مع الدول العربية والمجتمع الدولي، من خلال استرجاع دوره الإقليمي المسؤول، وهذا ما يمكّنه من ترميم العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي ومع الغرب، لجذب الاستثمارات الخارجية واستيلاد فرص اقتصادية جديدة.
- تطوير "خطة مارشال" بقيادة دولية للتعافي الاقتصادي: إن تطوير خطة شاملة من نوع "خطة مارشال" برعاية المجتمع الدولي، أمر بالغ الأهمية لتعافي لبنان واستيلاد فرص عمل فيه. إذ حالما تتمّ استعادة الحكم وتحقيق السلام، يصبح بإمكان القطاع الخاص ولبنان الاغتراب المشاركة في جذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة بناء الاقتصاد.
هذه الدعوة إلى الوحدة، والعمل كما يحب أن يصفها مطلقوها، تحافظ على ديمومة لبنان لكلّ اللبنانيين، "إذ لا وقت لنضيعه"، تقول رئيسة شبكة القطاع الخاص اللبناني ريما فريحة. "ونحن مستعدون لقيادة الجبهة الاقتصادية، ولكن يجب على الحكومة المبادرة الآن، وذلك بدعم من المجتمع الدولي، لتأمين الظروف الملائمة للاستقرار والقيادة والازدهار. فعلى مدى عقود، شكّل القطاع الخاص الشرعي في لبنان، الشريان الحيوي لنظامه الاقتصادي والضامن الفاعل للاستقرار المالي والمساهم الأساسي لعائدات خزينة الدولة. وذلك على الرغم من جميع الأزمات التي عصفت بالبلاد، ولا سيما منها الانهيار الاقتصادي وصولًا إلى الحرب الراهنة. وقد عملنا دومًا جنبًا إلى جنب مع المجتمع المدني ومع المغتربين اللبنانيين من أجل النهوض بالوطن وإعادة تكوين بنيانه"، تضيف فريحة. "ولكن، على الرغم مما يعانيه لبنان من تفاقم للدمار، وانزلاق للاقتصاد نحو الهاوية وتدهور الوضع الاجتماعي نتيجة النزوح والتهجير الداخلي، من المؤكد أنّ إيصال الصوت بات في منتهى الأهمية، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى".
على أن القطاع الخاص اللبناني مقتنع أنّ "الدبلوماسية الاقتصادية هي السبيل كي يكون صوته وصوت المجتمع الذي نمثّله مسموعًا". وهو يدعو المجتمع المدني والانتشار اللبناني إلى المساهمة في إيجاد الحلول لمواجهة التحديات الناجمة عن تلكؤ الحكومة في أداء واجباتها. ذلك أنّ تنمية الاقتصاد تعتمد على الاستقرار السياسي، الذي يتجذّر بدوره في الحوكمة الرشيدة. ويقترح القطاع الخاص تنفيذ خطة مارشال لإعادة الإعمار بعد الحرب. وذلك تيمّنًا بمشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. إذ تدفقت مساعدات موجهة إلى إعمار ما تهدّم، وتحفيز الاقتصاد وإعادة النمو والتنمية إلى اقتصاديات أوروبا.
"بلدنا تحت الحصار، ليس اقتصاديًا فحسب، وإنما دستوريًا أيضًا"، تقول شبكة القطاع الخاص. ويجب استعادة زمام الأمور في مؤسساتنا الرسمية، وضبط حدودنا، وفرض سيادة وسلطة القانون والعودة إلى تطبيق نظامنا الدستوري، وإلّا فسيستحيل العبور إلى الاستقرار والوصول إلى الازدهار.