نجت هيئة الأسواق المالية-CMA من "قطوع" الإقفال المدبّر مع نهاية العام الماضي، ولكنّها لم تفلت من "حبائل" التعطيل "الممدّد". حاولت جاهدةً ردّ سهام الأقربين، فخذلتها "درعها" التي فتّتها الضائقة المالية المعطوفة على خلافات داخلية. وأتت الحرب لتصبّ الزيت على مبرد من يعتبر أنّها "لزوم ما لا يلزم". فحفر الفراغ عميقًا في بنيانها الذي أريد له يومًا، أن يكون حديديًا.
قبل أكثر من شهرين، أكّدت هيئة الاسواق المالية في بيان أنّها "تدرس ملفات تراخيص لعدد من شركات الوساطة المالية، وسوف تقدّم التراخيص اللازمة للشركات التي تستوفي الشروط القانونية والمعايير المحددة في الأنظمة الصادرة عنها". وبما أنّ معظم طلبات الترخيص مقدّمة قبل سنوات، وبعضها يعود إلى لعام 2020، ألزمت الهيئة المستثمرين إعادة تحديث الملفات، وتقديمها من جديد.
الشركات تجدّد ملفاتها ولكن
و"بالفعل هذا ما قمنا به على وجه السرعة، تحت ضغط انعقاد مجلس إدارة الهيئة لبتّ الطلبات بعد أيام معدودة"، يقول أحد المستثمرين، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه. "فأعدنا تجديد عشرات الأوارق المتعلّقة بالشهادات، وعقود الإيجار، والتوظيف، والتعاقد مع مكتب محاماة والتدقيق المحاسبي، وشركة المعلوماتية. وأعدنا تجديد خطة العمل، ودراسة الجدوى، وتحديث السياسات والإجراءات المطلوبة". وعدا ضيق الوقت، وإقفال العديد من الدوائر العامة، وانتقال الشركات الخاصّة إلى خارج لبنان، أو عملها عن بعد، "فإنّ تجديد جميع هذه الأوراق وإعادة صياغتها، خصوصًا من حيث خطّة العمل، يتطلّب دفع مبالغ مالية كبيرة وصلت في بعض الحالات إلى نحو 40 ألف دولار"، يضيف المستثمر. "ومع هذا، أنجزنا المطلوب منّا للمرة الثانية، وأرسلنا الملفّات كاملة على أمل بتّها سريعًا، وإلى اليوم، أي بعد مرور أكثر من شهرين، لم نتلقّ أيّ جواب بالنفي أو الايجاب. ولا من يجيب على اتصالاتنا المتكررة للاستفهام وطلب الإيضاحات".
"الهيئة" مشلولة
تفيد معلومات خاصة بـ "الصفا نيوز" أنّ الطلبات المجدّدة لم ترفع بعدُ إلى مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية، لأنّها ليست ليست منجزة في الدوائر المخصصة. فعدا مشكلة تراجع أعداد الموظفين نتيجة الصرف، أو الاستقالة، أو تعذر الحضور، فإنّ بعضهم، ولا سيما أولئك الذين يتبوأون مراكز المسؤولية الأساسية، يعملون في وظائف أخرى نتيجة عدم تحسين مداخيلهم، ولا يحضرون بشكل دائم. والبعض الآخر يتغيّب بأعذار صحّية. ومع الإصرار على عدم تمويل الهيئة والعجز عن زيادة عديدها وتفعيل دورها وتعمّد صرف بعض الموظفين الفاعلين، تبقى جميع الأمور في وضع المراوحة.
الخشية من تكرار سيناريو المماطلة
ما يثير الحيرة والدهشة في آن واحد، أنّ طلبات الشركات المالية قيد التأسيس المحدّثة كانت مكتملة في السابق، ومطابقة للشروط، وتحظى بموافقة دوائر "الهيئة" العليا، ولم يكن ينقصها إلّا ختم "رخّص" من مجلس الإدارة. وهذه الطلبات لا تحتاج إلى الكثير من الفحص والتمحيص راهنًا، كونها مكتملة العناصر. وسبب التأخير ليس الإهمال، وإنّما وجود نية مخفية بعدم الترخيص، لسببين أساسيين:
- الرغبة في عدم إضافة المزيد من المسؤوليات إلى عمل الهيئة. خصوصاً في ظلّ تراجع عديدها، وفقدان تمويلها، وعدم حسم زيادة تعريفاتها على الشركات المرخصة والعوائد من المخالفات. وتتطلب الشركات الجديدة الكثير من المتابعة والتدقيق في مراحلها الأولية. وهذا ما لا يريده أحد.
- فقدان العديد من أعضاء مجلس الإدارة، الأمل بقدرة "الهيئة" على ممارسة الدور المرتجى منها، في ظلّ هذه الظروف الصعبة والمعقّدة، ومعرفتهم أنّ القدرة على التعطيل عند بعض الذين في مجلس الإدارة أقوى من جميع محاولات لملمة الوضع والعودة إلى المسار الصحيح. والاجتماعات المفترض أن تكون أسبوعية لمجلس الإدارة، قلما تعقد بسبب العديد من الظروف الأمنية والشخصية.
"الهيئة" تتأنّى
افتراض بعض المستثمرين أنّ سبب التأخّر في إقرار الملفات وإعطاء الرخص هو الإهمال، وهذا ما تنفيه مصادر من داخلها جملةً وتفصيلًا. "فصحيح أنّ أعداد الموظفين تناقصت، إنّما الجميع يحضرون إلى العمل بانتظام ويمارسون أعمالهم بشكل طبيعي، ولا أحد من أعضائها خارج لبنان، أو يولي عمله الآخر الاهتمام على حساب العمل في الهيئة"، تؤكّد مصادر الهيئة. "وفي ما خصّ الملفات، فهي تُدرس بهدوء بسبب الأوضاع التي مرّ ويمرّ بها البلد. فالتحقيقات في ملفات الشركات المالية المخالفة لم تنته بعد، والقضاء لم بيتّ الاتهامات. ومن ثمّ أتى التصعيد العسكري وخروج الحرب من قواعد الاشتباك وانفلاشها على لبنان كله. ليعقبهما إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لتبييض الأموال. وفي غمرة هذه التحديات المعنوية واللوجستية والتقنية، تتأنّى الهيئة في دراسة الملفات وبتّها". المصادر التي غمزت من قناة الاستهجان من استمرار الرغبة في ترخيص شركات مالية في هذه الظروف، أكّدت أنّه "ليس ثمة نيات مخفية لاستئخار الترخيص. والشركات المستحقّة سيُرخّص لها".
التراخيص الجديدة مصدر دخل
على الرغم من الظروف الصعبة التي يمرّ بها البلد، فإنّ الحياة مستمرّة، وقد يكون البلد بحاجة إلى شركات مالية مرخّصة وموثوق بها ومراقبة أكثر من أيّ وقت مضى. فالقطاع المصرفي معطّل، وخطط الإنقاذ مفخخة، والاتفاق مع صندوق النقد مؤجل، ولا يبدو في الأفق أيّ أمل بحلّ سريع فعال ومتكامل، والشركات اللبنانية تعاني الأمرّين لتأمين تمويل في ظلّ ضغط الحرب وعدم قدرتها على تحصيل ديونها من السوق. والشركات المالية المزمع إنشاؤها، وإن كانت لا تختصّ بالتمويل المباشر الذي أكثر ما تحتاج إليه الشركات والمؤسسات في هذه الظروف، هي صلة وصل، ومستشارة، ومرشدة ولدى العديد منها حلول لكيفية تأمين التمويل ومساعدة الشركات على الصمود والخروج سالمة من هذا الانهيار العميق. وفي ظلّ انهيار القطاع المصرفي، يضطر المتموّلون المقيمون من لبنانيين وأجانب إلى استثمار أموالهم إمّا مع الشركات الأجنبية، وإمّا مع الشركات المحلّية التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة، وبالتالي يتكبّد المستثمرون الكثير من التكاليف نتيجة احتكار الخدمات وعدم وجود منافسة حقيقية. في حين أنّ فتح السوق أمام شركات جديدة مرخصة وفاعلة لا يكبّر مروحة الخيارات، ويخفّض التكلفة، ويحسّن شروط الاستثمار فحسب، بل يجذب أموال اللبنانيين المغتربين، التي بدورها توظف في قطاعات محلية. وهذا ما يحفّز النمو ويزيد فرص العمل ويسرّع الشفاء من الانهيار الاقتصادي المتواصل.
وعي الضنينين بهيئة الاسواق المالية على أهمية دورها الحالي والمستقبلي في الاقتصاد، لا يعيدها إلى الحياة. وطالما هناك "عقلية" تعطيلية لا تولي الهيئة ودورها أية أهمية، لن تُدعم ماليًا، ويُفعّل دور أجهزتها الرقابية، وتُعدّل أسعار اشتراكاتها، وبدل مخالفاتها... وفي الإجراءات الكفيلة بتفعيل دورها وإعادتها إلى الساحة.
سواء كان التعطيل تقنياً أم سياسياً أم مالياً، فإنّ النتيجة تبقى هي نفسها. شركات آمنت بلبنان الدولة والمؤسسات، فأتت النتيجة مخيّبة للآمال.