يتّفق المستهلكون اللبنانيون على أنّ أثمان السلع والمنتجات على أرض الواقع، تخالف تقارير مؤشر أسعار المستهلك. "كلّ شي عم يغلى، وما في غير الإنسان عم يرخص"، تُتمتم سيدة وهي تنظر بكثير من الحسرة إلى زاوية الخضر والفواكه بأحد المتاجر، وأمامها سلّة شبه فارغة. "وحده الموت مجّاني"، برأيها، "فيما الاسعار آخذة في التحليق يومًا بعد آخر". أحاول أن أصحّح معلوماتها بأنّ الأسعار تشهد استقرارًا كبيرًا مقارنة بالوضع الصعب والمعقد الذي يمرّ به البلد، من حرب معطوفة على انهيار اقتصادي، ومشكلات وانقسامات لا تعد ولا تحصى، فترمقني بنظرة العارفة، مشيرةً إلى الكوسا المسعّرة بـ 150 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، وتقول: "الأسبوع الماضي كان سعرها 100 ألف"، وتمضي بعيدًا.

يبيّن التقرير الأسبوعي لأسعار السلّة الغذائية في وزارة الاقتصاد والتجارة (المكتب الفنّي لسياسة الأسعار) في نقاط البيع في مختلف المناطق اللبنانية، في 4 تشرين الأول 2024، أنّ نسبة التغيّر الأسبوعي في الأسعار بلغت 0.9 في المئة فقط. فيما ارتفعت الأسعار على مستوى سنوي بنسبة 6 في المئة. الرقمان يعتبران منخفضيْن نسبيًا بسبب الأوضاع الداخلية، وارتفاع أسعار بعض السلع عالميًا، وفي مقدمتها البن والكاكو، وزيادة تكاليف التأمين على البضائع المستوردة التي تصل إلى ساحل المتوسط.

ارتفاع أسعار الخضر والفواكه

الغوص في تفاصيل تغيّر اسعار السلع على صعيد أسبوعي، يظهر أنّ الخضر الطازجة والفواكه قادتا الارتفاع في الأسعار. إذ شهدت الخضر ارتفاعًا بنسبة 9.6 في المئة. نتيجة ارتفاع أسعار البندورة بنسبة 9 في المئة، والباذنجان بنسبة 21 في المئة، والكوسا واللوبياء البادرية بنسبة 35 في المئة. وعلى صعيد الفواكه، فقد قاد التفاح، بلونيه الأصفر والأحمر، الارتفاع العام لأسعار "سلّة" الفواكه، إذ ارتفع سعره بنسبة 9 في المئة أسبوعيًّا.

تراجع بقية السلع

أمّا في ما يتصل ببقية المنتجات، فقد تراجع سعر البيض ومنتجات الحليب، والحبوب، بنسبة -0.2 في المئة، و-0.6 في المئة على التوالي. فيما ارتفعت أسعار المنتجات الدهنية والزيتية، والمعلبات، وسائر المواد الغذائية بنسبة 0.5 في المئة، و0.1 في المئة، و4 في المئة على التوالي.

من الواضح أنّ أسعار السلع المنتجة محليًا، ومنها الخضر والفواكه والمعكرونة، ترتفع أسبوعيًا بنسب كبيرة، في حين تحافظ بقية السلع، ومنها المستوردة، على أسعارها، أو ترتفع بنسب قليلة. ويعود هذا التفاوت إلى أربعة أمور هي:

- الأول موضوعي يتعلّق بانتهاء موسم إنتاج بعض الخضر والفواكه، أو تراجع الكميات المنتجة منها، بسبب الحرب وخروج حوالى 30 في المئة من الأراضي الزراعية جنوبًا وبقاعًا من الخدمة.

- الثاني، ارتفاع التكلفة التشغيلية للإنتاج الزراعي بشكل هائل. خصوصًا من حيث تكلفة الطاقة واليد العاملة الأجنبية. فأجرة العامل اليومي ارتفعت في أكثرية المناطق إلى 20 دولارًا، فيما يتكبّد المزارعون تكلفة باهظة على المحروقات والأسمدة والمبيدات. كذلك ارتفعت تكلفة حفظ بعض المنتجات، مثل التفاح في البرادات، لارتفاع أسعار الكهرباء ارتفاعًا كبيرًا.

- الثالث، استغلال بعض التجار لظروف الحرب من أجل رفع الأسعار. خصوصًا الخضر والفواكه التي لا تملك وحدة قياس دقيقة. إذ تتحدد الأسعار بناء على الحجم، أو الجودة، أو الشكل، أو إذا كانت منتجة عضويًا.

زيادة تكلفة النقل، إذ يفرض السائقون تعرفة مرتفعة بحجة ارتفاع المخاطر على الطرق، وتحديدًا الواصلة من البقاع، أو حتى من شمال جنوب نهر الأولي.

في المقابل، فإنّ أسعار السلع المستوردة لم ترتفع أسبوعيًا إلّا بنسب طفيفة، وهذا دليل على ثلاثة أمور هي:

- عدم تعطل سلاسل التوريد برغم ارتفاع مخاطر الحرب في شرق المتوسط. واستمرار وصول الشحنات بشكل طبيعي.

- عدم تأثر الأسعار تأثّرًا كبيرًا بارتفاع تكلفة التأمين البحري.

- وجود منافسة قوية في السوق تدفع المستوردين وتجار الجملة إلى عدم رفع الأسعار للمحافظة على نسبة مبيعات كبيرة.

ارتفاع الأسعار، وإن كانت ترتفع بوتيرة شهرية، لا يزال مقبولًا برغم الأوضاع الصعبة.

الأسعار على مستوى سنوي

الارتفاعات المضبوطة على مستوى أسبوعي أو حتى شهري، شهدت ارتفاعات محدودة على مستوى سنوي. وعلى الرغم من أنّ نسبة الارتفاع العام بقيت نحو 6 في المئة، فإنّ هناك أسعارًا ارتفعت بين العام الماضي والعام الجاري بنسبة هائلة، منها: البن الذي ارتفع سعر الأوقية (200 غرام) من نحو 163 ألف ليرة إلى 248 الفًا، وبنسبة 50 في المئة. الذرة ارتفعت من 111 ألف ليرة إلى 135 ألفًا، للعلبة زنة 340 غرامًا، وبنسبة 22 في المئة. السردين ارتفع من 80 ألف ليرة إلى 99 ألفًا للعلبة زنة 125 غرامًا. الطحين ارتفع من 108 آلاف ليرة، إلى 162 ألفًا للكيلوغرام الواحد الموضب وبنسبة 49 في المئة. وارتفع أيضًا سعر لحم الغنم الطازج من مليون و467 ألف ليرة، إلى مليون و888 ألفًا للكيلوغرام، وبنسبة 29 في المئة. كذلك شهدت الخضر والفواكه ارتفاعًا كبيرًا على مستوى سنوي بلغ 58 في المئة، و35 في المئة على التوالي. في المقابل تراجع سعر زيت دوار الشمس من 100 ألف ليرة إلى 87 ألفًا للغالون سعة 3.5 ليتر، وبنسبة انخفاض -14 في المئة.

مقابل الظروف التي تتحكم بارتفاع أسعار السلع المنتجة محليًا، ولا سيما الخضر والفواكه، هنالك عاملان ساهما في الحد من الارتفاع، وهما:

- تدمير معبرَي المصنع والقاع الحدوديين، فأفضى ذلك إلى تراجع قدرة التجار والمزارعين على تصدير المنتجات من البقاع، تحديدًا إلى الدول العربية، واضطرارهم إلى بيعها في السوق المحلية. وهذا ما زاد العرض.

- تراجع الطلب نتيجة ارتفاع نسب الفقر وزيادة معدلات البطالة، ونزوح نحو مليون و200 ألف شخص، بحسب التقديرات الرسمية. 200 ألف منهم يعتمدون بشكل كبير على المساعدات الخارجية، وحوالى مليون تراجعت مداخيلهم بسبب تفاقم الحرب وتعطل الأعمال.

في المحصلة، فإنّ ارتفاع الأسعار، وإن كانت ترتفع بوتيرة شهرية، لا يزال مقبولًا برغم الأوضاع الصعبة. ولن تشهد الأسعار تغيّرات كبيرة إلّا في حالتين: زيادة التضييق الاقتصادي عبر إقفال المعابر البحرية، وعودة سعر صرف الليرة إلى الارتفاع أمام الدولار.