تثير المليارات المتبقية في النظام المالي شهيّة البعض على استعمالها، بغضّ النّظر عن قانونية الإجراء ونتائجه. في الماضي القريب، نجحت الضغوط في استخدام الأموال للدعم في مرحلة الانهيار، والتعويض بشكل غير مباشر على المتضررين من انفجار المرفأ، ومساعدة المؤسسات أيام جائحة كورونا. واليوم، تعود المطالبة بالاستفادة من الاحتياطيات للتعويض عن خسائر الحرب.

تميّز الأدبيات الاقتصادية بين نوعين من الاحتياطيات الاجنبية:

الأول، الاحتياطيات النقدية التي هي ملك السلطة النقدية، من عملات صعبة، وذهب، ووحدات السحب الخاصة، وسندات. وتستطيع التصرّف بها وفقاً للمصلحة الاقتصادية والمالية.

الثاني، ودائع المصارف لدى المصرف المركزي، وهي نسبة مقتطعة من الودائع، توضع بـ "الأمانة" لدى السلطة النقدية الناظمة التي لا يحقّ لها التصرف بها، لأنّها لا تمتلكها.

فقدان الاحتياطيات العامة

غني عن القول إنّ الشكل الأول من الاحتياطيات غير متوفر في المصرف المركزي. فالذهب المقيّم بنحو 25 مليار دولار مقيّد بقانون يَمنع استعماله. وسندات "اليوروبوندز" التي يملكها "المركزي" بقيمة اِسمية تناهز 5 مليارات دولار، لا يتجاوز سعرها الفعلي 70 مليون دولار. ذلك أنّ سعر السند في الأسواق العالمية يقارب 7 سنتات للدولار. والأرصدة لدى صندوق النقد الدولي سالبة. واحتياطات النقد الصعب استنفدت كلّها. لا يبقى إذاً، إلّا 10 مليارات و263 مليون دولار تمثل ما تبقى من توظيفات إلزامية، وحوالى 591 مليون دولار تمثّل ودائع للقطاع العام بالعملة الاجنبية إلى نهاية أيلول.

خطورة المسّ بالتوظيفات الإلزامية

عدا كون التوظيفات الإلزامية هي أموال خاصة للمودعين لا يجوز التصرف بها، فهي تقلّ بنحو ملياري دولار عن قيمتها الفعلية. إذ إنّ التوظيفات الإلزامية يجب أن تكون 12 ملياراً و200 مليون دولار، تمثل 14 في المئة من مجموع 87 مليار دولار، ودائع المصارف لدى مصرف لبنان.

هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث المضمون، فإنّ استخدام هذه الاحتياطيات تحت وطأة الحاجة الماسة، كما حدث سابقًا، سيعرّض الاقتصاد لاختلالات بنيوية. فبحسب دراسة لفريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم إنفست"، تتحدّد نسب كفاية الاحتياطيات، بناء على 3 عوامل:

- نسبة تغطّي التزامات الديون القصيرة الأجل.

- نسبة تغطّي ما بين 3 و4 أشهر من الواردات.

- نسبة تغطّي 10 في المئة من النقود بمعناها الواسع M2 لمنع أيّ طلب زائد على النقد الأجنبي من النقود المحلية.

ومما يستنتج من حالة لبنان، أنّه لا يمكن تطبيق النسبة الأولى، لأنّ البلد متخلّف عن السداد. وهناك ثلاثة عوامل تجعل نسب كفاية الاحتياطي المذكورة الثانية والثالثة أقلّ من قيمتها الحقيقية، للأسباب التالية:

- الميل الكبير للاستيراد.

- الانعزال عن أسواق رأس المال الدولية.

- محاولة مصرف لبنان تثبيت سعر الصرف عند 89500 ليرة .

ونتيجة لذلك، فإنّ المنطق الاقتصادي السليم يعني أنّ النسب المذكورة يجب أن تضاعف على الأقلّ. وهذا من شأنه أن يجعل نسبة تغطية الواردات عند 7 أشهر، ونسبة تغطية الكتلة النقدية العريضة M2 عند 20 في المئة، وليس 10 في المئة. وفي جميع الحالات، يجب ألّا تقلّ الاحتياطيات في أحسن السيناريوهات عن 10.5 مليار دولار. تمثّل: ضمان كفاية 7 أشهر من الواردات و20 في المئة من M2 التي تبلغ حوالى مليار و180 مليون دولار. لذا، تستنتج الدراسة أنّ مصرف لبنان لا يستطيع تحمّل تكاليف الشروع في تمويل نفقات الحرب.


استخدام الذهب دونه مجموعة من المخاطر

مخاطر استعمال الذهب

أمّا بالنسبة إلى الذهب، فإنّ المادة 69 من قانون النقد والتسليف تنصّ صراحة على وجوب إبقاء مصرف لبنان في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني، توازي 30 في المئة على الأقلّ من قيمة النقد الذي أصدره، وقيمة ودائعه تحت الطلب أي M2، على ألّا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50 في المئة من قيمة النقد المُصدر. وفي هذه الحالة، فإنّ الكتلة النقدية بالليرة، اليوم، مع ودائع تحت الطلب تصل إلى حدود 86 ألف مليار ليرة، وتعادل المليار دولار تقريبًا بحسب سعر صرف السوق. وهي تبقى أقلّ بكثير من قيمة احتياطي الذهب. إلّا أنّ استخدام الذهب دونه مجموعة من المخاطر، منها:

- خطة توزيع الخسائر الحكومية تقوم على ليلرة الودائع، وخصوصًا للشريحة التي تراوح بين 100 ألف و500 ألف دولار. وهذا ما يعني ضخّ كميات هائلة من الليرات في السوق مستقبلًا.

- استعمال الذهب قد يحفّز الدائنين الأجانب على تسريع المحاكمات للحصول على حصّتهم قبل نفاد الكمية.

- تعكير صفو المناخ الجاذب للاستثمارات، بعد انتهاء الحرب.

- العجز عن دعم استقرار العملة.

- غياب القدرة على الموازنة مع التراجع المفترض في ميزان المدفوعات.

التسديد من الاحتياطي للمودعين

إلى اليوم، ما زالت الاستعمالات للاحتياطي ضمن الإطار الحميد، ولم يتطوّر الوضع بعدُ إلى الاستنزاف العقيم. إذ عمد مصرف لبنان إلى زيادة استفادة المودعين من التعميمين 166 و158 خلال تشرين الأول الماضي، فأدى ذلك إلى تراجع الاحتياطيات من 10 مليارات و698 مليون دولار في نهاية أيلول، إلى 10 مليارات و263 مليوناً في نهاية تشرين الأول.

أمّا في ما خصّ احتياطي الدولة من العملة الصعبة، فقد بلغ 591 مليون دولار في نهاية أيلول. وهذا الرقم عاجز عن تسديد نفقات الحرب التي قدّرت بـ 8.5 مليار دولار إلى تاريخ انعقاد القمّة العربية في السعودية. حتّى إنّ الإيرادات العامّة بالدولار لا تكفي لتلبية حاجات النازحين حوالى شهرين. فبحسب الأرقام، فإنّ كلفة النازح اليومية تقدّر بـ 6 دولارات، وهذا ما يعني أنّ الكلفة الشهرية لـ 1.5 مليون نازح تصل إلى 270 مليون دولار شهريًا على أقلّ تقدير.

مرة جديدة، يظهر جليًا أن لا حل إلّا في تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ليس لأنها تتيح عودة لبنان إلى الأسواق المالية العالمية وتلقّي المساعدات النقدية من الدول فحسب، وإنّما أيضاً لكونها قد تؤمّن مصادر تمويل داخلية من استعادة الأموال المنهوبة، والتهرّب الضريبي في الداخل والخارج.