الأسبوع الماضي، نشرت مقالاً محوره توجّه أسعار الذهب العالمية إلى الارتفاع في نهاية العام الجاري، وصولاً إلى ثلاثة آلاف دولار للأونصة من وزن 31.1 غرام. أمّا الأسباب التي ستؤدّي إلى هذا الارتفاع فتعود، في الدرجة الأولى، إلى سعي دول منظومة البريكس إلى الاستغناء عن الدولار في مداولاتها التجارية لمصلحة عملاتها المحلية مع الاستغناء عن الدولار الأميركي كالعملة الاحتياطية والاعتماد على الذهب لتكوين احتياطياتها الاقتصادية الإستراتيجية.
وذكرت في ذلك المقال دور الصين في رفع أسعار الذهب العالمية، وعند مناقشة المقال مع صديق أميركي، ذكر لي أنّ أنظار العالم تنصبّ على الذهب فيما يجب أن تركّز أكثر على التطورات التي ستشهدها سوق الفضّة العالمي. وأشار الصديق إلى ما تقوم به روسيا التي أعلنت حكومتها أنّها ستبدأ بإضافة الفضة إلى احتياطياتها من المعادن النفيسة، علمًا أنّ أسعار الفضّة العالمية هي المرشّحة لأن تشهد ارتفاعًا بوتيرة أكبر بكثير من معدّلات ارتفاع الذهب.
والجدير ذكره أنّ روسيا التي باتت معزولة تمامًا عن الغرب، راحت توجّه تركيزها كاملاً إلى تنمية علاقاتها مع دول البريكس، وما يسمّى بدول الجنوب أو دول العالم الثالث في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، مع توجهها إلى الاستغناء عن الدولار في مداولاتها التجارية وإقامة منظومة تبادل مالي بديلة عن السويفت، وحتّى إطلاق عملة موحّدة لدول البريكس بديلًا من الدولار. ولتسريع هذا التحوّل، فإنّ روسيا قرّرت عدم الاكتفاء بتشكيل احتياطات من الذهب قد تلجأ واشنطن إلى ضربها إذا قررت إغراق سوق الذهب عبر بيع جزء من الاحتياطي الذي تمتلكه، من أجل دعم قيمة الدولار وسحب قسم من الفائض النقدي الذي نتج من قرار جو بايدن طبع ستة تريليونات دولار وضخّها في السوق في بداية ولايته في العام 2021.
وقد تحذو العديد من الدول حذو روسيا عبر تشكيل احتياطي من الفضّة، خصوصًا أنّ الفضة يمكن أن تكون لها استخدامات متنوعة بالإضافة إلى كونها احتياطيًا اقتصاديًا. ففي زمن سيادة التكنولوجيا، باتت هناك حاجة متزايدة إلى الفضة التي غدت ضرورية لتصنيع الأجهزة الإلكترونية المتقدمة والبطاريات والألواح الشمسية والإمدادات الطبية وغير ذلك الكثير. عدا ذلك، فإنّ الأسلحة الحديثة تحتاج إلى الفضّة حتى تتمكّن من الأداء بدقّة أكبر وكفاءة أعلى. قد يكون هذا أيضًا من أسباب سعي روسيا إلى تكوين احتياطيات من الفضة رفعت سعر الفضة العالمية إلى أعلى مستوى لها خلال 12 عامًا، وهو 32.5 دولار للأونصة.
قد تحذو العديد من الدول حذو روسيا عبر تشكيل احتياطي من الفضّة
ويبدو أنّ دولًا أخرى ستلتحق بركاب روسيا في السعي إلى شراء الفضة، منها الصين والهند اللتان تسعيان أيضًا إلى تطوير التكنولوجيا الخاصة بهما تطويراً يجعلهما تحتاجان أيضًا إلى الفضة، وهذا ما قد يستولد طلباً هائلاً، كما حدث أخيراً مع ارتفاع أسعار الذهب الذي كان مدفوعاً بأكمله تقريباً بالمصارف المركزية. وإذا كان ارتفاع سعر الفضة في السوق العالمية حتّى الآن مدفوعاً في المقام الأول بالطلب الصناعي على الألواح الشمسية والإلكترونيات والاستخدامات الطبية، فهو بدءًا من العام 2025 سيبدأ الطلب الاستثماري على الفضة في النمو بوتائر متصاعدة.
وفي الولايات المتحدة، حيث تزداد التوقعات بازدياد التضخم بوتائر متصاعدة مع تراجع قيمة الدولار أمام المعادن النفيسة، فإنّ المستثمرين بدأوا يلجأون أكثر فأكثر إلى شراء هذه المعادن مع إعطاء شراء الذهب الأولوية. إلّا أنّ الصديق الأميركي أبلغني بأنّ الفضة ستؤدي إلى عائد استثماري أعلى بكثير من الذهب، ذاكرًا واقعة تاريخية مفادها أنّ "يهوذا الإسخريوطي خان السيد المسيح مقابل إغراء الفضّة لا الذهب".
يُذكر أنّ سوق الفضّة صغيرة مقارنة بسوق الذهب. وقد يؤدّي قدر ضئيل من الطلب الاستثماري الإضافي إلى اختلال التوازن ودفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل كبير. وإذا رأينا دولاً تشتري الفضّة، إلى جانب الطلب الإضافي من المستثمرين، فقد تكون النتيجة انفجارًا كبيرًا في أسعار الفضة العالمية. وحتّى إذا ذهبت الأمور في اتجاه ركود اقتصادي عالمي نتيجة الصراعات الجيوسياسية وتوجّه المصارف المركزية إلى الاستجابة للتباطؤ من خلال طبع العملة من أجل تأمين السيولة المالية وغير ذلك من السياسات التضخّمية، فإنّ قيمة الفضة قد تنخفض مدة قصيرة لتعاود الارتفاع بأسرع ممّا سيحصل مع الذهب.